Join our mailing list
Be the first to know about our new products and promotions and enjoy the enriching weekly newsletters.
Last Update يونيو 11, 2023
هل سبق أن دخلت في نقاش فحاول أحد ما إنهاؤه لصالحه بجملة من طراز “العلم أثبت كذا وكذا” أو “هذا موجود في الطبيعة” أو “عليك أن تحكم العقل”؟
تقديس العلم/الطبيعة/العقل جزء من حضارتنا المعاصرة وأحد الافتراضات الضمنية لأيديولوجيا العصر الحديث. هو تقديس مهيمن علينا لدرجة لدرجة تُنسينا أن العلم في نهاية المطاف اجتهاد بشري، ونُصبح تدريجيًا نتعامل معه كمُسلمة تتحول مع الوقت لمرجعية أخلاقية نهائية أيضًا.
في تحية وجهها محمد كرد على – أحد مفكري الشام بالقرنين التاسع عشر والعشرون – لمدينة باريس قال مادحًا “أنتِ كنتِ في مقدمة العواصم التي انبعث منها تمجيد العقل بل تأليهه، فقضيت بالتقدُّم له على كل شيء في الوجود”. هذا الانبهار المبكر بـ “العقل” و”العلم” ترسخ مبكرًا في وجداننا لدرجة أن الاحتكام لمرجعية “العلم” كثيرًا ما صار أقوى وأهم من الاحتكام لمرجعية الدين. في هذه المقالة سنسير يدًا بيد في محاولة لتفكيك وفهم “عبادة العلم” عبر ثلاث مراحل.
المرحلة الأولى: هل العلم نهائي؟
لقرون ظل تصورنا عن الفضاء قائمًا على نموذج يفترض أن الأرض مركز الكون والشمس تلف حولها، وترسخ هذا النموذج بكتاب “المجسطي” لبطليموس وعُرف باسم “الهيئة البطلمية”. استقرت الهيئة البطلمية – مثل الكثير من الكونيات الإغريقية – كحقيقة علمية لفترات طويلة في العالم الإسلامي والمسيحي وتعززت مع الوقت بالكثير من الأبحاث والملاحظات الفلكية.
إلى أن جاء كوبرنيكس. في كتابه الشهير – الذي أجل نشره وبدأ بإهداء للبابا – وضع كوبرنيكس تصورًا مختلفًا للفضاء يجعل الشمس في المركز والأرض تدور حولها. كان هذا النموذج مختلفًا جذريًا عن التصور السائد وقد عارضه الكثيرون من رجال الدين مثل مارتن لوثر ومن رجال العلم مثل فرانسيس بيكون، لكن بعد طول شد وجذب تبين أن كوبرنيكس كان على صواب، غير أنه لم يكن على صواب كامل أيضًا، فقد أخطأ في عدة أمور، وقد احتاج علم الفلك لنحو قرن ونصف كي تتراكم جهود كبلر وجاليليو وبراهي – الذي آمن رغم ذلك بمركزية الشمس – وغيرهم لنصل لهيئة فلكية أكثر موثوقية ودقة وأكثر قبولًا لدى المختصين وذلك بعد إدخال العديد من التعديلات واكتشاف العديد من الأخطاء.
جاء نيوتن بعدها ليرسم تصورًا كونيًا معدلًا وأكثر شمولية حين أدخل قوانينه الشهيرة ونظريته الخاصة بالجاذبية ثم جاء اينشتاين وهدم كونيات نيوتن أيضًا! الكثيرون لا يعلموا أن نظرية الجاذبية الكونية لنيوتن لا تعتبر دقيقة اليوم وأن نموذج اينشتاين تفوق عليها وتمكن من تفسير ما عجزت عن تفسيره. يستمر عقل اينشتاين في إبهارنا إلى اليوم بإثبات صحة عدة من توقعاته، لكن مع تزايد اكتشاف أخطائه وتأكيدها بتنا نقترب من لحظة انهيار النموذج الآينشتايني بل نرى اكتشافات ربما تؤدي لانهيار القوانين الفيزيائية التي نعرفها أصلًا ونشوء كونيات جديد.
إذن هل العلم نهائي؟ من هذه النظرة البسيطة على جزء من تاريخ العلم نعرف الإجابة. وليس في الفلك والفيزياء فقط بل كل العلوم هي عبارة عن تراكم لاجتهادات وملاحظات ودراسات بشرية يتم مع الوقت هدمها جزئيًا أو كليًا بفضل تراكم جهود بشر آخرين، هي عملية مستمرة منذ آلاف السنين فنحن في حالة حركة معرفية لا حالة ثبات مهما شعرنا بأننا بلغنا ذروة العلم، {وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}. قبل أقل من قرن نال العالم الدنماركي فيبيغر جائزة نوبل في الطب إثر اكتشافه لدودة مسببة للسرطان. نعرف اليوم أن هذه الدودة لا تسبب السرطان إطلاقًا ولكن في ذلك الوقت نال اكتشاف فيبيغر – الخاطئ – أعلى جائزة على مستوى العالم! إذا كان العلم غير نهائي في أي لحظة من لحظات التاريخ، فلا يوجد داع لاعتبار العلم الحالي في لحظتنا المعاصرة هو النهاية والخاتمة التي يمكن أن نؤمن بها إيمانًا غيبيًا مطلقًا وبالتالي نستعملها كثابت من الثوابت التي يمكن تسخيرها في بناء منظومتنا الأخلاقية والقيمية.
والمدهش في تاريخ العلم أن “العلم” الخاطئ قد يفسر الكثير من الظواهر وقد ينجح في تشغيل العديد من المخترعات رغم أنه خاطئ. هذه ملاحظة جوهرية: كون “العلم” يعمل لا يعني أنه صحيح أو نهائي بالضرورة. ظهر هذا مرارًا في تاريخ العلم، مثلًا كانت إحدى الحجج ضد كوبرنيكس أن النموذج البطلمي أفضل وأبسط في تفسير الظواهر الكونية في حينه، لقد “كان بطليموس الفلكي الأول الذي يصمم نظامًا رياضيًّا كاملًا للكون، وقد تنبأ بحركات الكواكب بدقة في حدود ٥ درجات” كما قال فاينرت في كتابه المطول حول كوبرنيكس وداروين وفرويد، و”كان النموذج الأرضي المَركز دقيقًا إلى حدٍّ ما في توقعاته لحركة الكواكب، ولكنه كان يستند إلى بنية خاطئة”. كفاءة “العلم” في العمل والإتيان بنتائج دقيقة ليس دليلًا بالضرورة على صحته، والأمثلة عديدة. باختصار يمكننا القول إن العلوم الطبيعية هي اجتهادات بشرية تتراكم وتتغير وتتجدد على الدوام، وهذا ما يعرفه العلماء أنفسهم ومنظرو منهجيات البحث العلمي، فكل تقديس للمعرفة البشرية في مرحلتها الحالية هو تضليل. ننظر اليوم بسخرية لتصورات أكبر علماء الكونيات الإغريق وسيأتي يوم ينظر فيه آخرون لعلومنا بنفس السخرية.
الذي يحصل في عالم اليوم المعلمن هو أن الحديث العلمي يستثني الله بشكل ممنهج ومتعمد فيصبح الدين هو المثير للاستهجان والسخرية في مقابل “العلم” الذي تم تضخيمه وتقديسه. حين سافر الطهطاوي لفرنسا قبل قرنين لاحظ أن في أهلها رفضًا لتصديق أي شيء مما في الكتب السماوية “لخروجه عن الأمور الطبيعية”، وهذه ملاحظة مبكرة على اعتبار العلم/الطبيعة/العقل حجج ثابتة نهائية متفوقة على أي مرجعية أخرى.
الحقيقة أننا بالعلم نعرف أن العلم محدود وبالعقل ندرك أن العقل محدود وكلما زاد علمنا زاد ادراكنا لسعة جهلنا عن الكون والمخ والفضاء والمحيطات والجينات وغيرها من المجالات المبهرة.
كلـما أدبني الدهـر
أراني نقص عقلي
وإذا ما أزددت علماً
زادني علماً بجهلي
المرحلة الثانية: هل العلم محايد؟
تطور الطب الحديث بشكل كبير على يد علماء مثل الأمريكي جيمس سيمز لكن لو نظرنا خلف انجازاته المبهرة سنرى الرعب الذي مارسه سيمز وغيره على العبيد في سبيل أبحاثهم العلمية. هل العلم محايد؟ الجواب المختصر هو لا، لا شيء محايد، بما أن العلم انتاج بشري فسيكون دومًا عرضة لانحيازهم المتعمد وغير المتعمد.
وهم الحياد جزء من تعظيم العلم حيث يُنظر للعلوم الحديثة على أنها موضوعية وحيادية تمامًا خالية من القيمة ولا تتأثر بالآراء الشخصية ولا بالمنظومات السياسية التي تنشأ فيها، لكن أي نظرة فاحصة لهذه الادعاءات ستجعلها تتبخر سريعًا.
التقنيات الحديثة للتعرف على الوجه باستخدام الخوارزميات تبدو مثالًا جيدًا لتقنية تبدو محايدة وتعمل من تلقاء نفسها. في الحقيقة تنطوي هذه التقنية على انحياز عنصري بسبب الطريقة التي صممت بها وبسبب المنظومة التي تعمل من خلالها. حتى التصوير الفوتوغرافي في السابق لم يكن قادرًا على التقاط ألوان البشرة الداكنة بدقة لأنه صمم من البداية للبيض، سواء تم التحيز بوعي أو بدون وعي.
الكاميرا ليست محايدة لأن الذي صنعها ليس بمحايد! الذكاء الصناعي ليس محايدًا، الخرائط القديمة ليست محايدة، الخرائط الالكترونية الحديثة ليست محايدة، والأمثلة لا تنتهي.
ثمة سبب آخر لنقول بوهمية الحياد وهو أن الأبحاث العلمية لا تجري في الفراغ فهي جزء من منظومة السلطة والثروة في العالم. الدول الأقوى لديها عادة الأبحاث الأقوى والأكثر “مصداقية” وهي التي ستهيمن على الطرح الأكاديمي ليس فقط من ناحية بحثية وإنما عبر هيمنة النموذج المعرفي الشامل الذي تروج له. حتى الأرقام والاحصائيات غير محايدة، ففي دراسة مهمة نشرت عام 2010 تبين أن أغلبية الأبحاث في علم النفس مثلًا تأتي من دول غربية، فأحيانًا تكون الأغلبية الساحقة – ما يصل لـ 96% – من العينات تأتي من دول تضم 12% فقط من سكان العالم. “هناك افتراض ساذج بأن وجود أرقام وجداول يعني أننا ننظر للحقيقة” كما تقول كاثرين ديغنازيو الأستاذة المساعدة في جامعة MIT والتي تؤكد أن البيانات لن تكون محايدة أبدًا، وتقول “هي معلومات جمعت بطريقة معينة بواسطة فاعلين ومؤسسات معينة ولأسباب معينة”.
انتاج المعرفة مرتبط بعلاقات السلطة في المجتمع والعالم على كل المستويات. من الممكن أن نراه في مثال بسيط كالمعاملة التفضيلية التي قد يتلقاها ابن رئيس الجامعة إلى كل المستويات الأعلى. مثلًا، عادة ما يكون الأثرياء هم أغلب الحاصلين على التعليم العالي والمنتمين لمؤسسات تعليمية “راقية” لها اسم رنان وبالتالي تزداد فرصهم في الحصول على وظائف مرموقة – بما فيها الوظائف الأكاديمية – والمكانة الاجتماعية الأعلى تمكنهم من التنظير ونشر أفكارهم بدرجة من المصداقية المرتبطة بوضعهم التعليمي والاجتماعي. في أحيان أخرى تلعب علاقات السلطة دورًا مباشرًا في إقرار أو إلغاء أجزاء من المنهج بغض النظر عن القيمة التعليمية له، أو تهيمن بنماذجها المعرفية وتفضيلاتها على طرق التدريس بشكل غير مباشر، وهذا واضح في دراسات القانون الدولي وفي دراسات العلاقات الدولية مثلًا التي لا يمكن فهمها بمعزل عن الهيمنة الغربية وبالذات التفوق الأمريكي والبريطاني.
كما تلعب علاقات الثروة دورًا مشابهًا عبر التمويل وغيره. مثلًا شهدت العلوم السياسية في الولايات المتحدة سابقًا فترة انتعاش في الأبحاث الكمية المتعلقة بالانتخابات وكانت كثيرة لكن بلا فائدة فما سبب التركيز عليها؟ أحد أهم الأسباب كان في أن الممولين حينها كان لديهم تصور حول امكانية توقع النتائج الانتخابية بشكل رياضي دقيق، فقاموا بتغذية هذا الاتجاه في الدراسات مما خلق كتلة غير مفيدة في الإنتاج الأكاديمي.
تلك المحاولات لإخضاع السلوك الإنساني السياسي لمعايير كمية ورياضية كان أيضًا من افرازات وهم القدرة على تحويل كل شيء إلى بيانات محايدة في السياسة وفي غيرها من العلوم الانسانية مثل علم النفس حيث كان سيغموند فرويد يزعم أن “التحليل النفسي في الواقع هو طريقة للبحث، أداة محايدة، مثل حساب التفاضل والتكامل” وهو زعم سخيف لو تأملنا فالنفس أعقد بكثير من اختصارها في علاقات رياضية. (لنقد موسع لعلوم النفس راجع مقالتي المطولة حولها هنا).
وفي التاريخ يقول بعض المؤرخين أن أي سردية تبنيها في تأريخك – لدولة مثلًا – هو استثناء لسرديات ومعلومات أخرى شئت أم أبيت، مهما كان تأريخك موضوعيًا، بمعنى أن مجرد اختيار الزاوية التي ستؤرخ منها هو انحياز. هذا الانحياز ليس سيئًا بالضرورة لكن إدراك وجوده مهم ومحوري، لا يوجد تأريخ محايد لأن التأريخ جهد بشري والبشر محدودون في معارفهم ومداركهم وقدراتهم.
كلما جاء موضوع الحياد أتذكر ملاحظة جورج أورويل بأن “الرأي القائل بوجوب فصل الفن عن السياسية هو بحد ذاته توجه سياسي”، وهي ملاحظة ثاقبة، فـ”الحياد” أصلًا موقف.
المرحلة الثالثة: هل العلم دومًا مفيد؟
في العصر الحديث هناك تصور شائع أن أي علم تتعلمه وأي كتاب تقرأه وأي رأي مختلف تسمعه هو مفيد بالضرورة، بينما في النموذج النبوي كان عليه الصلاة والسلام يستعيذ من علم لا ينفع، ونحن نعتبر إبليس من أعلم الخلق لكنه الأشد بعدا عن الحقيقة.
حين بدأ التفاؤل بالعلم في القرن التاسع عشر كتب فرنسيس فتح الله المراش بتفاؤل مفرط أن “العلم هو الفاعل الأعظم لتثقيف العقل، والمروِّض الأكبر لجماح الطبائع” وأن ” العلم يخلق في الإنسان قلبًا نقيًّا وروحًا مستقيمةً ويجعله ظافرًا بكلِّ الصفات الصافية ونافرًا عن كلِّ ما يَشين الجوهر الإنساني، ولا يترك له سبيلًا إلى التفكُّر في الأمور الدنيَّة والأميال المنحرفة” ثم يضرب أمثلة عجيبة أذكر هنا بعضها مختصرة “فكيف يُفكِّر الإنسان مثلًا في دناءة السلوك عندما يكون الفلك طائرًا به إلى أعالي الأجرام السماوية … وكيف يرتضي بعمل المنكرات حينما تكون الكيمياء مُقدِّمةً له مشكلاتها وطارحةً عليه مسائل غوامضها … وكيف يسمح لأمياله أن تسرح في عالم الشرور والمعاصي حينما تكون الجغرافية سارحةً به على ظهر هذه الكرة الأرضية المملوءة من عجائب الخليقة”.
قبل العصر الحديث تكلم علماء المسلمين بسلاسة عن وجود علم نافع وعلم ضار، علم واجب وعلم مباح، علم ممدوح وعلم مذموم، وهكذا. قال الإمام الغزالي أن العلوم غير الشرعية تنقسم إلى محمود ومذموم ومباح “فالمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة، وهذه هي العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها حرج أهل البلد. وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين، فلا يتعجب من قولنا إن الطب والحساب من فروض الكفايات فإن أصول الصناعات أيضًا من فروض الكفايات فإن أصول الصناعات أيضًا من فروض الكفايات كالفلاحة والحياكة والسياسة بل الحجامة والخياطة فإنه لو خلا البلد من الحجام تسارع الهلاك إليهم وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله وأعد الأسباب لتعاطيه فلا يجوز التعرض للهلاك بإهماله” وذلك بالإضافة لتركيز علماء الإسلام على محورية صلاح النية في طلب العلم ومحورية العمل به. في النية يقول الغزالي “فاعلم أيها الحريص المقبل على اقتباس العلم المُظهر من نفسه صدق الرغبة وفرط التعطش إليه، أنك إن كنت تقصد بالعلم المنافسة والمباهاة والتقدم على الأقران واستمالة وجوه الناس إليك وجمع حطام الدنيا فأنت ساع في هدم دينك وإهلاك نفسك وبيع آخرتك بدنياك، فصفقتك خاسرة وتجارتك بائرة” ويقول في العمل بالعلم “فلو قرأ رجل مائة ألف مسألة علمية وعلمها وتعلمها ولم يعمل بها لا تفيده…”.
لكن ثمة زاوية أخرى في العمل بالعلم: ماذا يصنع هذا الجيش الضخم من العلماء حول العالم بعلمهم؟ كل هؤلاء المختصين في الفلك والطب والكيمياء والفيزياء والهندسة والجيولوجيا والبحار وغيرها، هل يستعمل علمهم دومًا في الخير؟ هنا بيت القصيد. العلم ليس خيرًا ولا شرًا، الخير والشر يكمن في ما تصنع بهذا العلم.
الكثير من أكبر جرائم العصر الحديث ارتكبت على يد علماء. من الصعب علينا اليوم أن نرى هذه الحقيقة البسيطة رغم وضوحها لكن في الحقيقة فإن أسلحة الدمار الشامل لم تكن ممكنة لولا جهود علماء كبار مثل فريتز هابر – الحاصل على نوبل – ومثل أوبنهايمر وفريقه الذين عملوا في “مشروع مانهاتن” بهدف إنتاج أول قنبلة نووية، وقد نجحوا فتعرضت هيروشيما وناجازاكي للقصف المروع الذي أودى بحياة ما يقرب من ربع مليون إنسان. حين أقر هتلر برنامج أكتيون 4 لإعدام المرضى الميؤوس منهم والمعاقين جسديًا أو ذهنيًا أدى ذلك لمقتل عشرات الآلاف من الأبرياء – قد يصل العدد النهائي لمائتي ألف ضحية – فمن الذي نفذ هذا البرنامج الوحشي؟ ليس عصابات في الشارع ولا بلطجية في الأزقة بل أطباء وممرضين وعلماء في مؤسسات طبية وعلمية وبعضهم من المتحمسين لنظريات اليوجينيكس وغيرها من الأفكار التي كانت في الماضي “علمية” واستعملت بكثافة لتبرير الاستعمار والعنصرية، ومن هذا المنطق تم إعقام الآلاف من النساء دون عملهن و/أو موافقتهن وهي جرائم ارتكبها علماء وأطباء. الفكر النازي لم يكن استثناءً في موجة الأفكار الأوروبية المشابهة في حينه ولا في استخدام “العلم” كتبرير. نتذكر وحشية النازية ولكننا عادة ما ننسى علميتها.
وهكذا باستخدام اليوجينيكس والداروينية الاجتماعية و”العنصرية العلمية” وقياس الجماجم وغيره تم تبرير قتل وجرح وتشريد واعتقال الملايين من البشر لكن المجرم يقول إنه ليس عنصريًا، فالعلم أثبت أن هذه الأعراق أقل شأنًا والعلم هو المرجعية الأخلاقية!
هذه التيارات تبناها وروج لها العديد من مشاهير العلم وهنا نصل للحظة فارقة: أن موقف المؤمن الحقيقي من هذه النظريات هو رفض ارتكاب جرائم بناءً عليها حتى لو كانت النظريات مثبتة بشكل قطعي! حتى لو أثبت لي علميًا أن اليهود أو السود أو المعاقين أو “الغجر” أقل درجة في السلم الإنساني أو أقل ذكاءً فلن أقتلهم أو أطردهم أو أمارس ضدهم أي شكل من أشكال الظلم، حتى لو تحججت بأن “العلم أثبت ذلك”، لأني بكل بساطة لا أعبد العلم وليس مرجعيتي الأخلاقية، رغم احترامي له واستفادتي منه، هذا بالإضافة لإدراكي بأن العلم غير نهائي غير محايد.
كذلك تم استخدام الجغرافيا السياسية لتبرير التوسع الاستعماري، فأفكار فريدريك راتزل الذي قد يكون أهم من أسس الجغرافيا السياسية نراها اليوم كمجرد مفردات سياسية “تحيط بها هالةٌ من العلم … عبَّرتْ عن رغبةٍ قوميةٍ متطرفة، وبرَّرتها، في حيزٍ ما، وكان من شأنها أن عجَّلَتْ بحَرْبَيْن عالميتين في القرن العشرين” كما يقول جغرافي معاصر.
وقد أسيء استعمال المؤسسات التعليمية مرارًا وتكرارًا وتحويلها لمصدر شر وظلم همجي ممنهج. هذا العام كشفت كندا عن أكثر من 1000 قبر عند مواقع سابقة للمدارس السكنية التي استعملت بشكل مروع لخطف وقهر أطفال السكان الأصليين، وليس هذا بالتاريخ السحيق، فآخر مدرسة من هذا النوع تم اغلاقها عام 1996 فقط، كما شهدت الولايات المتحدة مدراس مشابهة (كما اعتذرت استراليا عن سياسيات أخرى ضد الأطفال)، واستخدمت المخابرات الأمريكية جامعة مكغيل الكندية في إجراء أبحاث تعذيب على أشخاص بغير رضاهم أو معرفتهم، ونفذت جامعة هارفارد تجارب لا أخلاقية خضع لها طلاب من بينهم تيد كيزينسكي صاحب الطرود المتفجرة. ولن يكون غريبًا لو اكتشفنا أن جرائم أخرى ترتكب اليوم تحت ستار المنظمات التعليمية وبحجج العلم والبحث والتقدم.
خاتمة
هذه المقالة ليست ضد العلم ولا دعوة لرفضه، وكاتبها لا يؤيد مزاعم الأرض المسطحة أو أن التطعيم سيصيبك بالتوحد وما إلى ذلك. هذه المقالة ضد تقديس العلم وتأليهه. نقد الحداثة ومنتجاتها لا يعني رفضها بالمطلق ولا يعني إنكار نواحيها الإيجابية، هو مجرد محاولة لتشريح أوسع وأعمق لواقعنا المعاصر وفهمه في سياقه الحقيقي ومحاولة تخفيف أضراره، لعلنا يومًا ما نكون قادرين على صنع واقع أفضل وأكرم للبشرية جمعاء.
وأود أن أشير في النهاية أن لفظ “العلم” بمعناه الحديث لا يشمل “العلم” بمعناه الأوسع. نحن نجد نصوصًا كثيرة عن العلم والعلماء في القرآن والسنة ونحفظ الكثير منها مثل {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} و”طلب العلم فريضة” وغيرهما، لكن العلم المقصود هنا ليس العلم التجريبي الحديث – كما يصر البعض – بل العلم بالله وبكتاب الله وبرسول الله وبدين الله، فلا تخرج من الدنيا وأنت عالم بالدنيا جاهل بخالقها وخالقك، كن من الذين يعلمون ولا تكن من الذين لا يعلمون {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}.
نعم، العلم بخلق الله مهم ومفيد وممتع لكن العلم بالله أهم وأعظم وأعمق وأدوم.
Be the first to know about our new products and promotions and enjoy the enriching weekly newsletters.
12 تعليق