Join our mailing list
Be the first to know about our new products and promotions and enjoy the enriching weekly newsletters.
Last Update يونيو 11, 2023
أول عارضة أزياء محجبة وأول عارضة بوركيني محجبة على غلاف مجلة وقصة نجاح براقة للحلم الأمريكي لطفلة لاجئة تحولت لعارضة ناجحة. لكن مسيرة النجاح هذه توقفت بعد أسئلة عميقة. ما هي الغاية من هذا النجاح؟ ما هو النجاح أصلًا؟ وهل يمكن أن نلتزم بحياتنا الأخلاقية أثناء العمل في صناعة الأزياء العالمية؟ من حليمة تبدأ الحكاية لكنها تنتهي بشيء أكبر بكثير.
رجعت حليمة
بعد احتفاء واسع بها كأول عارضة أزياء محجبة، أعلنت الأمريكية الصومالية حليمة ادن تركها للمهنة لأنها لا تتناسب مع دينها – كما قالت ـ. تضحك أثناء لقائها مع البي بي سي قائلة “هذه أكثر مرة أشعر فيها بالراحة أثناء مقابلة صحفية، لأنني لم أمضِ عشر ساعات وأنا أتجهز وأرتدي ثوبا لن يكون بإمكاني الاحتفاظ به”.
لاحظ البعض منذ البداية صعوبة التوفيق بين عرض الأزياء وما يتضمنه من استعراض بالجسد واللبس ومساحيق التجميل وبين فلسفة الستر والحشمة لدى المسلم. حليمة عاشت هذه التجربة بشكل مباشر، “وجدتُ نفسي وقد ابتعدتُ عن مساري، ودخلتُ مساحة رمادية متعبة سمحت خلالها لفريق العمل باختيار شكل حجابي”. مع الوقت تقلص حجم حجابها وباتت الفجوة بين المهنة من جهة والتزامها الأخلاقي من جهة أخرى أكثر وضوحًا. نرى درجة من عدم التوافق في عناوين الأخبار بين مفهوم وهوية الحجاب وبين ما يتم ربطه به: أول محجبة في سلاح الجو الأمريكي، أول راقصة باليه محجبة، أول راقصة جليد محجبة، أول ضابطة محجبة في الشرطة الإسرائيلية، إلخ.
لكن التنافر لم يكن متجليًا في حجاب حليمة الشخصي فقط، فصناعة الأزياء كلها يصعب توفيقها مع القيم الإسلامية وكثيرًا ما تكون غير قادرة على فهمها أصلًا. في احدى المرات تصفحت حليمة مجلة تعاونت معها لتتفاجأ بصورة لرجل عار أيضًا، ” لماذا اعتقدت المجلة أنه من المقبول أن تنشر صورة امرأة مسلمة محجبة، ثم تضع صورة رجل عار على الصفحة التالية؟ “.
كانت حليمة تصر أيضًا على تضمين عقودها بندًا يسمح لها بالحصول على مساحة خاصة لتبديل ملابسها أثناء العمل – عكس المعتاد في صناعة الأزياء – لكن مع الوقت أدركت أن العارضات المحجبات الجديدات لم يحظين بهذا الامتياز وكانت حليمة تراهن يؤمرن بتغيير ملابسهن في الحمام. ” تفاجأت وقلت لنفسي يا إلهي هؤلاء الفتيات يتتبعن خطاي، أنا من فتحت لهن باب الخطر! … كثيرات منهن في مقتبل العمر، قد تكون هذه الصناعة مجالا مخيفا. غالبا ما كنت أجد نفسي ألعب دور الأخت الكبرى حتى في الحفلات التي كنا نحضرها، كنتُ أنادي إحدى العارضات المحجبات لأني قد أراها محاطة برجال يتجمعون حولها ويلاحقونها. كنت أقول لنفسي: أشعر أن هناك خطبا ما، إنها مجرد طفلة! “.
العارضة المسلمة رملة أوسوبلي اشتكت من نفس الشيء وقالت إن بعض الذين عملوا معها في المجال لم يحاولوا فهم حدودها الدينية. ” سألني أحد المصممين ما إذا كان بإمكاني ارتداء فستان له فتحات تكشف الجسد، وتجادلنا طويلًا بسبب هذا الموضوع لأنني أخبرتهم أنني لست على استعداد لارتداء ثياب كاشفة للغاية … وفي مرة أخرى، سألني أحد المصورين عما إذا كنت جاهزة لأبدل ملابسي وكنا في وسط الحديقة. صدمت للغاية “.
التضامن مع حليمة ورملة امتد لخارج المجتمع المسلم، بل حتى إلى صلب صناعة الأزياء حيث تضامن المصمم العالمي تومي هيلفيغر معهما قائلًا إن “ما فعلته حليمة كان بمثابة جرس إنذار لصناعة الأزياء” وأن قصة رملة “أمر مخزٍ. وأعتقد أنه دليل على عدم الاحترام. هذا يغضبني حقًا. إنه لأمر محرج أن أكون جزءًا من شركة وجزءًا من مجتمع لديه مثل هذه الأفكار البالية الشائنة”.
لكن قصة حليمة تظهر لنا أن الفجوة قد تكون أوسع من ذلك، الفجوة بين الاهتمام الإنساني الحقيقي وبين سطحية فتاة الغلاف.
كلاجئة سابقة اضطرت حليمة الصغيرة أن تمشي على قدميها 12 يومًا كي تصل لبر الأمان. انحفرت تلك التجربة في مخيلتها هي وأسرتها، وأصرت عليها والدتها – التي رفضت انضمامها لمجال الأزياء – أن تكرس جزءًا من شهرتها للضعاف، ومن هنا بدأ تعاون حليمة مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) وصارت سفيرة لها. حينها زارت مخيم كاكوما للاجئين – حيث ولدت هي – والتقت الأطفال ” سألتهم: هل لا زالت الأمور على حالها؟ هل لازال الرقص والغناء مفروضا عليكم أمام عدسات الكاميرا؟ فأجابوني: نعم، لكننا هذه المرة لا نرقص لأي من المشاهير الذين جاؤوا لزيارتنا، إننا نرقص لك أنت “. انزعجت حليمة جدًا وهي ترى أطفال المخيم يقوموا لها بما كانت هي تقوم به حين كانت مكانهم. ” بعد أن تكلمتُ مع الأطفال، حسمتُ قراري: لقد سئمتُ من المنظمات غير الحكومية التي تعتبرني قصة جميلة ملهمة عن الشجاعة والأمل “.
دون رغبتها تحولت حليمة لجزء من الآلة وصارت فتاة غلاف لا تشبه نفسها، صورتها صارت أقوى من حقيقتها ورمزيتها تغلبت على وجودها. أمام الناس عاشت حليمة حلمًا ورديًا ونجاحًا مبهرًا لكن خلف الكواليس كان الصراع يحتدم داخلها ويمتد لصحتها النفسية وعلاقاتها الأسرية. خلال السفر كانت ترى صورتها على أغلفة المجلات بالمطار وكانت بالكاد تميز نفسها ” لم أكن متحمسة أبدا؛ فلم أكن قادرة على رؤية وجهي. هل لك أن تتخيلي مدى تأثير ذلك على الصحة العقلية؟ في الوقت الذي كان يفترض لي أن أشعر بالسعادة والامتنان وأن أشعر أن تلك الصورة صورتي، لم أكن كذلك أبدا. كانت تبدو مهنتي وكأنها في أوجها، لكنني لم أكن سعيدة نفسيا “.
السؤال ليس عن حليمة كشخص، السؤال عن صناعة الأزياء والموضة والمكياج والتفنن غير المسبوق في تجميل الظاهر. هل جذور هذه الصناعات متناقض بطبعه مع القيم السامية بشكل لا يمكن إصلاحه بالتوفيق؟ هل يمكن إنشاء صناعة أزياء عالمية إسلامية تستر عورة الرجل والمرأة ولا تدمر البيئة ولا تعذب الحيوان ولا تستغل العمال والأطفال وتكون بنفس الانتاجية والجودة وانخفاض السعر؟ هل يمكن صناعة فنون إسلامية؟ هل يمكن إنشاء صناعة أفلام ومسلسلات خالية من المحرمات؟ هل يمكن دخول عالم الرسم والنحت دون التعرض لتلك الصور والتماثيل التي تجسد و/أو تسخر من الله والأنبياء والملائكة ولتلك التي تعري الجسد البشري وتنزع خصوصيته ولتلك التي تؤدي لإيذاء بشر أو حيوانات لأجل إتمامها؟
من الفنون الجميلة إلى الدولة المستحيلة
هذه التساؤلات حول الأزياء والفنون وجيهة لكنها تمتد لكل مجال آخر. شهدت الساحة الثقافية العربية والإسلامية نقاشات من الوزن الثقيل بسبب كتاب “الدولة المستحيلة” لوائل حلاق الذي كرس جهوداً مطولة في دراسة أكاديمية للشريعة والقانون مع نظرة تجديدية ثاقبة وتسبب في طرح أسئلة عميقة: هل يمكن أن نقول حقًا أن الدولة الحديثة لا تتوافق مع الدولة الإسلامية لأن الدولة الإسلامية متفوقة أصلًا على الحديثة ومتجاوزة لها؟ هل وصلنا إلى التناقض الذي لا يمكن حله ولا التوفيق بين مكوناته؟ وإذا كان الوضع كذلك فما جدوى السعي نحو حكم إسلامي في إطار الدولة الحديثة والمجتمع الدولي والمفاهيم المعاصرة للسيادة والقانون الدولي والمواطنة؟
لا يتحدث حلاق وغيره هنا عن “الخلافة” ولا عن المفاهيم الحركية للإسلام ولا عن مجرد نظرة حالمة للماضي. الدولة الحديثة – كالحداثة كلها – ظاهرة حديثة تنطوي على مركزية شديدة ومأسسة مبتكرة للتشريع والتنظيم والتنفيذ والقضاء، هناك فلسفة كامنة خلف غايات إنشاء الدولة الحديثة وتحولها هي بحد ذاتها لغاية كبرى فوق الغايات، فهل تتناقض هذه المواصفات وغيرها مع الفلسفة الأخلاقية للإسلام ومع نظرته للمجتمع والفرد؟
هو نقاش مثير وطويل لكن ليس هنا محله بطبيعة الحال، فالذي يهمنا هنا أن حلاق يرى بأن الدولة الحديثة ليست مجرد أداة محايدة نستعملها كما نشاء فيمكننا توجيهها لخدمة غايات سامية، هي أداة غير محايدة ولا يمكن تطويعها لخدمة أغراض غير الأغراض التي أسست لأجلها. الفروق بين الدولة الحديثة والمفهوم الإسلامي جوهرية وعميقة ومن الحتمي أن يصلا إلى تناقض صعب، ” تثير هذه التناقضات المتأصلة والجوهرية في مجملها مشكلة مهمة. فكي ينظم المسلمون حياتهم على أسس اجتماعية واقتصادية وسياسية، لا بد من أن يواجهوا خياراً حاسماً. فإما أن يستسلموا للدولة الحديثة والعالم الذي أنتجها وإما أن تعترف الدولة الحديثة والعالم الذي أنتجها بشرعية الحكم الإسلامي “.
وكما يرى حلاق بأن الدولة الإسلامية مستحيلة يرى غيره بأن الاقتصاد الإسلامي مستحيل وأن المنظومة المالية الدولية متناقضة في جذورها مع فلسفة الإسلام تجاه المال والملكية والاحتكار والفقر والزهد والزكاة والأوقاف وتجاه التأكيد على حرمة المال وضرورة حفظ استقلال الذمة المالية للأفراد بعيدًا عن السرقات والربا والغرر والمكوس والعشور. ومثلما يوجد جدل حول الدولة الإسلامية والاقتصاد الاسلامي والبنوك الاسلامية، يمكن الإشارة لجدالات أخرى مشابهة حول القانون الاسلامي والفن الإسلامي والنسوية الاسلامية وغيرها من محاولات الأسلمة، وهي جدالات تدفعنا للتشكك في مؤسسات الحداثة بأسرها، ليس لوجود إشكال في الإسلام بل لوجود إشكالات عويصة في الحداثة نفسها. ” أكثر مشكلات الإسلام الحديث جوهرية ليست إسلامية بصورة حصرية، بل هي في الواقع جزء أساس من المشروع الحديث نفسه في الشرق كما في الغرب ” كما يقول حلاق.
معضلة الحداثة وعالم من التناقضات
لقرنين أو أكثر ونحن بالمجمل لا نصنع حضارة بل نستوردها فقط. معايير وشروط الدراسة والفن والرياضة والإدارة والصناعة والاقتصاد والسياسة وضعها غيرنا ونحن نتبعها فقط. منذ قرنين وكل نقاشاتنا الكبرى مرتبطة بهذه المعضلة: نتلقى الحداثة ومنتجاتها فننقسم لفريق رافض/متخوف وفريق مرحب/متبني وفريق ثالث يريد أن نأخذ الإيجابيات ونترك السلبيات. من الدولة للفن ومن البنك للمدرسة ومن الطباعة للتلفاز للإنترنت ومن الجوال بكاميرا إلى البوكيمون. من حينها وحلقة ردود الفعل هذه لم تنقطع يومًا، وأنت محبوس في ردة الفعل لأنك لست من الفاعلين أصلًا.
أنت مستهلك فقط، تهبط عليك المنتجات الحضارية للآخرين وأنت تجاهد نفسك ومن حولك لتحديد الموقف منها والذي سيقع دومًا ضمن درجة من درجات المقاربات الثلاثة (الرفض المطلق، القبول المطلق، محاولة التوفيق). من هنا نشأت كليشيهات كثيرة مثل الشرق والغرب، الأصالة والمعاصرة، التجديد والتقاليد، ومحاولات تصدير منتجات يمكن إضافة لفظ “إسلامي” لها مثل علم إدارة إسلامي، فيسبوك إسلامي، تلفزيون واقع إسلامي… إلخ، وفي كثير من الأحيان ليست سوى تعديلات سطحية لا تمس الجوهر.
الكثير من تطبيقات الحداثة لها فوائد واضحة، لكنها تظل إشكالية كونها منبتة الصلة عن البيئة المحلية ونشأت دون سياق طبيعي وبالتالي يمكنها أن تتحور يومًا ما إلى ما لا يحمد (وطبيعي أن أنماطًا مشابهة لردود فعلنا قد تكررت سابقًا في ثقافات أخرى كالصين واليابان). في قراءته العميقة لمعضلة الحداثة في سياقها القانوني لاحظ طارق البشري أن تعديل القوانين المحلية لتكون ذات أصل فرنسي أو انجليزي أنتج لنا تشريعات كان يمكن التوصل إليها من داخل إطار الشريعة أصلًا فلماذا أراد المستعمر الوصول لها من منطلقاته هو إذا كانت النتيجة واحدة؟ ” كان القصد في ظني هو العدول عن الإطار المرجعي الشرعي إلى إطار مرجعي آخذ عن الغرب وقوانينه، بما يقضي على استقلالنا التشريعي “، أو كما تساءلت رضوى عاشور في كتابها الحداثة الممكنة: ” هل كانت القطيعة شرطًا من شروط هذه الحداثة؟ أم كانت القطيعة عنصرًا أساسيًا من عناصر إعادة إنتاج الهيمنة الكولونيالية بما يعوق الحداثة الفعلية ويستبدل بها حداثة مستحيلة لا تتوفر لها جذور ولا فروع، حداثة منبتة ” لا ظهرًا أبقت ولا أرضاً قطعت؟
رغبتنا في الحداثة والتطور شديدة، لكن السؤال المتصاعد هو هل الحداثة تحمل في طياتها وفي حمضها النووي تناقضًا بنيويًا مع قيمنا الإسلامية؟ المقاربة التي تقول بالاستفادة من إيجابيات الحداثة وترك سلبياتها هي الأكثر شعبية ولكن هل يمكن فصلهما أصلاً؟
مثلًا هل يمكن أن نحقق ثورة صناعية أو تجارية دون تدمير البيئة وتهجير البشر والحيوانات واستنزاف الموارد الطبيعية وظلم العمالة؟ هل يمكن التوفيق بين فلسفة عمارة الأرض وبين نهضة تؤدي لتلويث الهواء لـ 90% من البشر وتقتل نحو 7 ملايين منهم سنويًا؟ بين “لا ضرر ولا ضرار” وبين تجارة التبغ التي تودي بحياة نحو 8 مليون إنسان سنويًا منهم أكثر من مليون شخص غير مدخن؟ ويمكن الحديث بنفس الشكل عن أخلاقيات المهن الحديثة وعن المنظومة المدرسية والجامعية وعن التخطيط المدني وعن الجيوش الحديثة وعن الاتفاقيات الدولية وعن التقسيم الإداري وعن منطق أوقات الدوام وعن علم النفس، وهلم جرا.
وأصلًا هل يوجد أي إنجاز من الإنجازات الحضارية الكبرى لم يقم على معاناة الفقراء أو العبيد أو العمال أو السكان الأصليين أو الشعوب المستعمرة أو البيئة الطبيعية؟ حتى حين نفذنا مثل هذه الانجازات في بلادنا، هل استطعنا فصل السلبيات؟ مثلًا كم شخص مات أو هجر بسبب حفر قناة السويس أو تشييد السد العالي أو بناء ملاعب كأس العالم 2022؟ هل يمكننا في يوم من الأيام أن نأخذ الحداثة دون سلبياتها، أم أن السلبيات منعجنة في تكوينها لا تنفصل عنه؟
ومثلما يحاجج وائل حلاق بأن الدولة الحديثة ليست مجرد أداة محايدة، يمكننا أن نطرح نفس السؤال على ما سوى ذلك من مجالات. هل يمكن إنشاء نظام نقدي وبنكي غير ربوي؟ هل يمكن إنشاء قطاع أعمال غير مبني حول فكرة تعظيم الربح كقيمة جوهرية وحيدة؟ هل يمكن أن ندرس علم الأحياء دون أن نجبر على التعامل مع النظرية الداروينية كأمر مسلم به؟ هل يمكن أن نوفق بين تنمية الحياة الأخلاقية للمسلم وبين ترسيخ مفاهيم الحريات الجنسية والجندرية بشكل اجباري؟ هل يمكن أن نستهلك أفلام ومسلسلات نتفلكس وما شابهها دون التعرض لما تحتويه من أمور تتعارض مع قيمنا؟ هل يمكن أن ننشئ سياحة أخلاقية لا تدمر البيئة ولا تستبطن الاستشراق ولا تنحي أخلاقنا بهدف توفير الراحة للسائح؟ في الحقيقة لا شيء حيادي، فكل شيء يقع ضمن إطار فكري معين، وكل مسار تختاره سيعني حتمًا أن ثمة مسارات أخرى قمت برفضها.
هل النماذج البديلة أيضًا مستحيلة؟
من ناحية نظرية ليست النماذج البديلة مستحيلة لكن من ناحية عملية أمامنا شوط طويل. نحن لم نبذل الجهد الفكري اللازم في النماذج البديلة ناهيك عن المرور بمرحلة تطبيقها وتجريبها وتعديلها أثناء التجريب. كما أن الواقع العملي والعالمي شديد التعقيد والترابط. لكن غياب البديل الفوري لا يعني أن نرفض التفكير النقدي والتحليل الضروري، بل يمكن أن نزعم بأن أي بديل حقيقي سينشأ بعد درجة من الرسوخ الفكري أولًا.
الذي نلحظه الآن أن التناقض يزداد بين روح الإسلام وروح الحداثة الغربية، وأن رئيس دولة علمانية مثل فرنسا ترفع شعارات الحرية والإخاء والمساواة وتزعم عدم تدخل الدولة في قيم المواطنين ينادي بمكافحة “الانفصالية الإسلامية” ويلزم أئمة المسلمين على توقيع ميثاق لـ “القيم الجمهورية”، ورئيس دولة أوروبية أخرى مثل التشيك يهاجم الإسلام ويشكك في قدرته على الاندماج في أوروبا بل ويشارك بنفسه في مظاهرة معادية للإسلام ويلقي خطبة فيها، ورئيس أمريكا السابق يعتقد أن “الإسلام يكرهنا” ويعلن رغبته في منع المسلمين من دخول البلاد بينما مستشاره الجنرال مايك فلين يشبه الإسلام بالسرطان. مع الوقت يجد مسلمو الغرب اختيارات أصعب ليس فقط من ناحية التشريعات – كالإكراه على السفور في بعض الحالات بفرنسا – ولكن في التحالفات السياسية الممكنة. اليسار الذي يوافقهم في معارضة الحروب الاستعمارية بات شرسًا في دعمه للحريات الجنسية والجندرية وغيرها، بينما اليمين يتمسك ببعض قيم العائلة والأخلاق الفردية لكنه ينادي بالعنصرية ضد المسلمين في بلاده وبقصفهم في بلادهم. في الوقت ذاته يمكننا أن نقول بأن الغرب نفسه يصل لمأزق سيؤدي لجعل النماذج البديلة أكثر جاذبية وأكثر قابلية للنقاش.
في آخر أيامه كتب عبد الوهاب المسيري أنه قد ” أصبح من الضروري تطوير منظومة تحديث إنسانية إسلامية، منظومة هدفها ليس التقدم المستمر وبلا نهاية وتصاعد معدلات الاستهلاك ولا تقوم على أساس ثورة التطلعات المتزايدة، وإنما التوازن مع الذات ومع الطبيعة وتحقيق العدالة الاجتماعية. منظومة يطورها عقل مسلم متوازن مع ذاته ومع الطبيعة، ولذلك فهو غير نزاع للغزو والسلب، منظومة توازن بين الإنتاجية وقيم العدل، وتوائم بين الحقوق الفردية وحقوق المجتمع، حداثة تجعل الإنسان وتحقيق إمكانياته هي المركز، تركز على الإنسان من حيث هو إنسان، وليس من حيث هو كائن اقتصادي أو جسماني أو طبيعي. إن المطلوب هو حداثة جديدة تتبنى العلم والتقنية ولا تضرب بالقيم أو بالغائية الإنسانية عرض الحائط، حداثة تحيي العقل ولا تميت القلب، تنمي وجودنا المادي ولا تنكر الأبعاد الروحية لهذا الوجود “.
لكن كي نقترب من هذا الهدف علينا أن نتعود على تفكيك الحداثة وعدم التعامل مع افرازاتها كمسلمات حتمية وكنهاية التطور البشري وأقصى مراحله، وأن نتعرف على الأسس والمنطلقات الفلسفية التي يقوم عليها التصور المعاصر للحياة ومعناها وللإنسان وغايته وألا نخجل أو نعتذر عن فلسفتنا الأخلاقية، ليس لأننا ننتمي لها بل لأنها تنتمي للسماء.
Be the first to know about our new products and promotions and enjoy the enriching weekly newsletters.
6 تعليقات