دليل الوالدين للتعامُل مع اختلاف الأبناء

post Image>

محاولة لفهم طبيعة العلاقات العائلية في العالم المُعاصر

ملاحظات قبل البدء:

هذا الدليل يُعني بمُعالجة الصراعات التي يدخلها الآباء مع أبناهم بسبب “المعاصي” التي يرتكبونها مُعالجة نفسية بالدرجة الأولى. بمعنى أن هذا الدليل لا يُعني بأي شكل من الأشكال أن يُصنف سلوكيات أبنائك لصواب أو خطأ. أو يؤكد بأن حُكمك على الأمور صائب شرعًا. انه يلتقيك في المكان الذي تقف فيه انت وابنك. ربما يكون حكمك على سلوكيات ابنك ليس لها أساس شرعي، وربما أنت تختلف معه في أمور مُختلف فيها شرعًا، أو ربما كل صراعاتك تدور حول مكروهات أو حول متروكات تُعد من المستحبات. أنا هُنا لست مُخوّلة لتسليم فتاوي بشأن سلوكيات أبنائك. وفي الحقيقة ربما انت ايضًا لست مُخول بذلك. كل ما يُذكر كأمثلة في الدليل هي أمثلة شائعة سمعتها إما في نطاقي المهني أو الشخصي الهدف منها التقريب وليس الحصر.

مُقدمة:

تُؤلمك أخطاء أبناءك ألمًا لا يُمكنك وصفه والتعبير عنه، تُفرغ الوسع في أن تُريهم الحقيقة. تُجرب مرة بالنقاش، ومرة بالصراخ، ومرة بإشهار السلاح الأقوى ألا وهو رضاك عنهم. تُحاول أن تُغيرّ رأيهم في المعاصي التي يقترفونها فابنتك ربما تركت الحجاب، وابنك يُدخن، وآخر ربما لا ينتظم على الصلاة. أنت الذي فعلت كل ما يمكن فعله لتثبيتهم على طريق الخير. أنت الذي لم تكن تتصور أنك ستخوض نقاشًا من هذا النوع مع أقرب الناس لك. إنها خيبة أمل يفشل أبناءك الإحساس بها، وكل مُحاولاتك للتعبير عنها تفشل. كل مرة تشعر بأن الغضب يزداد تجاههم وبأن الفجوة تتسع. لا تعرف لماذا لا تصل إليهم توجيهاتك ومحاولاتك.

 تُراجع نفسك مع شريكتك ما الخطأ الذي أبعدهم عنّا وعن الصواب؟ هل مكنتهم أكثر مما يجب؟ هل أطلقت أجنحتهم أكثر من اللازم فحلّقوا بعيدًا عنّا وعن مبادئنا وعن ديننا؟

تفشل في فهمهم واستيعابهم فهم الآن مختلفين عنك تمامًا، يتحدثون بلغة مُختلفة، لديهم مطالب مُختلفة، مطالب تُعنى بالدرجة الأولى بإبعادك عنهم فالكثير من النقاشات تنتهي بأن الأمر لم يعد يخصك.

هذا الدليل يهدف إلى مساعدة الوالدين على التعامل مع المعاصي التي يرتكبها أبنائهم بطريقة مؤصلة فقهيًا ومُستلهمة من الرحمة النبوية وذلك عن طريق اختبار المشاعر والسلوكيات التي تصدر عن أولياء الأمور كردة فعل لمعاصي أبنائهم ووضعها تحت مجهر علم النفس، والتراث الإسلامي.

أولاً: هل تتذوق في أخطائهم طعم الخسارة والفقد؟

أنت تعودت كثيرًا بأن تكون البطل في قصة ابنائك: الملجأ، والمُرشد، والميناء الأخير الذي تعود إليه السُفن مهما ابتعدت. رغم صُعوبة تمرد المُراهقة إلى أنك كُنت تشعر بأن التمرد مُؤقت وبأنك مازلت تملك التأثير عليهم. الآن الأمر يبدو أصعب وأكثر إيلامًا: لم تعد مُتأكد بأن لك دور رئيس في حياتهم.

هُناك احتمال بسيط لكنه جدير بالتأمل هو أن الحرب التي تخوضها مع ابناءك ليست أخلاقية أو دينية بحتة، وإنما قد تكون عاطفية بعض الشيء. ربما يكون نُصحك المُتكرر وانتقادك الدائم لتقصير أبنائك الديني مُحملاً بالكثير من مشاعر الخسارة والفقد. فالغضب والإحباط الذي تُبديه عندما ترى ابنتك الغير مُحجبة قد يكون له حمولة عاطفية أنت لست واعٍ بها: حمولة المرحلة الانتقالية التي تمر بها أنت وشريكتك كوالدين. ربما تكون تقاعدت في ذات الوقت الذي أصبح فيه أبنائك مستقلين بشكل كامل عنك، أنت الآن تُحاول أن تُعيد تعريف الوالدية من جديد . لم يعد ابنائك يحتاجونك، ولم تعد تعمل وأنت الآن تبحث عن معنى وعن أُنس. تُريد أن تشعر بأنك مُهم ومُفيد في حياة ابنائك فهم مهما كبروا ما زالوا ابنائك، والأهم من ذلك تُريد أن تجد طريقة لتأنس بهم، ولتتواصل معهم، ولتسمع منهم أكثر ويسمعون منك لذلك ربما يكون النصح هي حيلتك الوحيدة التي تستخدمها من أجل أن تقول لأبنائك أنك ما زلت تُحبهم وتكترث لهم وتُريد أن تناقشهم وتقضي بعض الوقت معهم.

هذه المرحلة الانتقالية مؤلمة، وكل شيء فيها جديد وأنت تُحاول أن تكتشفها وتكتشف أبجدياتها. من الطبيعي أن تتعثر في مُحاولاتك لفهم نفسك وعلاقاتك فيها.

لذلك المرة القادمة التي تشعر بأنك عازم على انتقاد ابناءك توقف قليلاً:

تفقد هذا الألم بداخلك حاول أن تفهمه أكثر، حدّق النظر في هذا الشُعور المُتطفل الثقيل.

أعرف بأن هذه ليست عادتك، فأنت لا تتوقف عند مشاعرك، لا تُؤمن بما يقوله مختصين علم النفس. فهو جُزء من هُراء هذا العصر، ومن البلايا التي كُتبت علينا. لكن الأمر جدير بالمُحاولة فأنت عاجز عن إيجاد حلول أخرى. افعلها هذه المرة على سبيل التجربة.

  • هل أنت مُتألم فعلاً لأن أبناءك ابتعدوا عن الحق، أم لأنهم ابتعدوا عنك؟
  • هل أنت تشعر بأنك مُلزم بشنّ الحرب ضدهم خوفًا عليهم من الضلال، أم خوفًا على نفسك من أن تفقدهم؟
  • ماذا يختبئ تحت قناع الفضيلة والواجب؟ هل هو خوفك عليهم، أم شوقك لهم؟

ثانيًا: لماذا يضيق ثوب التسامح على ابناءنا ؟

أنتِ شخص مُتسامح بطبيعته، أنتِ من علم ابناءك التسامح. لديكِ قُدرة هائلة ورحابة مُنعشة تُمكنك من تقبل الجميع باختلافاتهم. لديك صديقات غير مُحجبات و كذلك بناتهن وأنت على علاقة طيبة مع الجميع. لكن هذا التسامح يضيق عندما يصل إلى ابنتك أو ابنك. يبدو التسامح في عائلتك وكأنه مُغامرة خطرة: هل سيدفعهم تسامحي إلى مزيد من التهاون في العبادات؟ هل أحتاج إلى أن اسحب بساط القبول من تحتهم لأدفعهم نحو القرارات الصائبة؟

يبدو التسامح قرارًا غير مسئولاً في دورك الوالدي، تسأل نفسك من الذي سيُرشدهم وسيرفع أمامهم الإشارة الحمراء اذا أعطيتهم الأمان وأظهرت لهم التسامح؟ من الذي سيكترث بمكانهم في الجنّة، إن لم أفعل أنا ؟

هُناك إحساس حقيقي يتملكك بأن مصير آخرتهم يعتمد عليك، لذلك فإنك تقومي بإشهار أسلحتك العاطفية كل يوم وبلا هوادة. تُحاولي أن تكوني واضحة في إيصال رسالتك لابنتك إذا لم تلبس الحجاب فأنتِ جادة في سخطك وعدم رضاك عنها. تُرددي على مسامع ابنك مرة بالدموع ومرة بالبرود بأن لحُبك حدود، وها هو قد تجاوز الحد بإهماله في الصلاة. تحاولين استخدام هذه العلاقة الآمنة بينكما كملف للتفاوض الأخلاقي. افعلها فقط من أجلي، توقف عن التدخين من فضلك. غطي شعرك فقط عندما أكون معك.

كل التسامح الذي في جُعبتك مُتاحًا للجميع إلا أبنائك، ابناءك بحاجة إلى صرامتك للنجاة. الأمر ليس فيه سعة، وإنما على العكس فالعملية هُنا هي عملية انقاذ تستدعي اختيار المصلحة كأولوية، أي شيء آخر يأتي بعد مصلحتهم.

لكن هل هذه هي “حقيقة” صراعاتك مع ابناءك؟ هل كل الأمر مُتعلق بآخرتهم فعلاً؟ أم الأمر يمرّ بشكل خفي بدُنياكِ؟

بصورتك الاجتماعية؟ ومكانتك بين أهلك وصديقاتك؟

ما الذي تخاف منه فعلاً، هل تخاف أن لا تتسع رحمة الله لأخطائهم؟ أم تخاف أن لا تجد طريقة تُبررّ بها فشلك في إصلاحهم أمام نفسك ومجتمعك؟

هل الأمر فعلاً خالصًا لله، ومُتوجهًا لرضاه، إذا كان كذلك فهل إقحام برك ورضاك سيخدم الهدف أم سيكون عائقًا في تحقيق الصدق في المطلب والوُجهة؟

ربما من باب الصدق وتجديد النية، من المُفيد التوقف قليلاً للتفتيش في هذه النية، ولتفقد قلبك في هذا السعي:

  • إن كان المقصد والوجهة هو الله تعالى، فهل سعيي في إصلاح أبنائي يشغلني عن إصلاح قلبي ونفسي؟
  • هل الكمال هو مطلب شرعي، أم أنه حاجة نفسية لي كأم تُشبع احساسي بذاتي؟
  • إذا كانت رحمة الله تسع الأكوان والأشياء كُلها، فهل تضيق عليّ وعلى أبنائي، أم أني أنسى هذه الرحمة عندما أرى أخطائهم؟
  • من الذي هداهم صغارًا ورباهم، هل تعتقدي بأن الأمر كان جُهدك خالصًا، أم أنها كانت هداية الله وفضله؟
  • هل من الممكن أن يكون ما أمرّ به مع ابنائي اختبار لي قبل أن يكون اختبار لهم؟

وبعد أن تسأل نفسك هذه الأسئلة، تذكر بأن التسامح والسعة الذي تشعر بأنها مُخاطرة تربوية مع ابنائك، هي أحوج ما يحتاجونه اليوم. فالعالم الذي يعيشونه أبنائك لا يُشبه نفس العالم الذي عشته في شبابك. إنه عالم مليئ بالمُغريات والفتن والشُبهات، وابنك أحوج ما يكون لرحمتك وأحوج ما يكون لصُحبتك في جهاده نحو الصواب. كُن عونًا له في معاركه مع نفسه. حاول أن تُشيد بالصواب الذي ينجح فيه بدلاً من التركيز على الخطأ الذي يفشل في الوصول إليه.  

ثالثًا: هل من الممكن أن أكون فتنة لأبنائي من دون أن أدري؟

لا أحد يشك في رغبتك الحقيقية في أن يكون أبناءك صالحين ومُصلحين، وإن كانت هذه الرغبة مُحملة كما أسلفنا سابقًا بحمولات عاطفية أخرى إلاّ أن هذا لا يلغي وجودها. أنت فعلاً تتمنى أن يعرف ابناءك الطريق إلى ربهم وأن يُحسنوا من أحوالهم مع الله، فالمُسلم يتمنى ذلك للغريب، فما بالك بأقرب القريب أبناءك وفلذات كبدك. هذه الرغبة هي التي تدفعك لقراءة هذا الدليل، وربما للحديث مع مُستشارين. لذلك أشجعك هنا أن تتوقف لتفحص الطريقة التي تُعبر بها عن هذه الرغبة، هل طريقتك تعكس صدق رغبتك وتحقق مرادك؟ هل هي الطريقة الأنسب أم أنها في الحقيقة تدفعهم للاتجاه المُعاكس؟

تذكر قبل أن تبدأ بنصح أحد أبنائك:  

قبل أن تهم بالتعبير عن رفضك لأبنائك أو بالتعبير عن رغبتك في رؤية نسخة أفضل منهم، من المهم أن تتذكر بأن هذه العلاقة الحميمة واللصيقة بأبنائك هي أكثر العلاقات حساسية وأقلها صلابة لتسع انتقاداتك. في غالب الأحيان علاقتك بأبنائك مُعرضة بشكل دائم إلى سوء الفهم، والصَدَع، والتورّم العاطفي ولا يرجع السبب في ذلك لمُشكلة تتعلق بك أو بأبنائك. وإنما يعود لطبيعة هذه العلاقة  فهي مهمة للغاية وجوهرية لكونها العلاقة المرجعية التي يقوم أبنائك من خلالها بشكل مستمر بإعادة صناعة وترميم علاقتهم بأنفسهم وبالعالم من حولهم.  لذلك أي خُدش في علاقتهم بك – وإن كانت سلوكياتهم تبدو غير مكترثة- يؤثر فيهم بشكل ربما لا ينعكس على تعبيراتهم. ربما يبدو ابناءك أمامك غير مبالين، أو متمردين، أو سيئ الأدب لكن في الحقيقة كل هذه التصرفات الجافة والقاسية إنما هي أقنعة تختبئ تحتها شخصيات أحوج ما تكون لقبولك ولحبك.   

لذلك من الجيد أن تكون على وعي بأن نُصحك لأبنائك تنطوي عليه بعض المخاطر العاطفية -سأكتفي بذكر اثنين منها- التي قد تجعل من نُصحك فتنة لهم بدلاً من أن تكون نورًا لهدايتهم:

أولاً: أن تكون حجابًا بينه وبين الحق:

 ما تُصنفه على أنه تعليق بسيط، أو انتقاد لبق، أو إشارة بسيطة لتقصير واضح من الممكن أن يُهددّ شعور ابنك/ابنتك بقبولك له، واحترامك لكيانه بشكل عام، فيتحول ابنك الراشد المُتعلم والذي ربما يشغل الآن  منصبًا قياديًا في وظيفته إلى مُراهق أرعن أو إلى طفل خائف. مرة أخرى ليس لأن ابنك مهزوز وإنما لأن رأيك فيه يتحدى صورته أمام نفسه وليس لأحد من البشر هذه السُلطة سواك. انت الوحيد الذي تملك القدرة على تهشيم الصورة التي بناها ابنك لنفسه أمام نفسه، لأنك عندما تنتقد أي تصرف يقوم به ابنك، فهو لا يسمع الانتقاد بشكل موضوعي ومُجرد من المشاعر. فابنك قادر على أن يسمع جارك يقول له: يا ابني هذا الدخان غير جيد لصحتك. ويبتسم بأدب ويشكر الجار على النصيحة ويمضي، بينما اذا قلت انت نفس العبارة فهو في الغالب سيسمع شي مغاير تمامًا، ستصله رسالة مفادها: أنا لست فخور بك لكونك تدخن، أنت لا تستحق احترامي لكونك غير قادر على اتخاذ قرارات صحية جيدة، أنت طفل في نظري وغير قادر على تحديد الأصلح لك.

 كلها عبارات لا يُمكن أن يُحس بها ابنك/ابنتك إلا تجاهك أنت. فغالبًا عندما تصل هذه العبارة بحمولتها العاطفية الثقيلة، سيكون أمامه خيارين لا ثالث لهما:

  • إما أن يتمرد ابنك تمرد يعميه عن الحق تمامًا، فيُصبح أبعد مما كان عليه في بدء عملية النقاش والتفاوض. لأنه سيُصبح في محاولة لاستعادة احساسه بذاته وكرامته
  • أو أن ينصاع لك خوفًا منك وسعيًا لرضاك، -بينما يتكوّر الإحساس بالحنق بداخله- وبالتالي فأنت بذلك صنعت من علاقتكم صنمًا يعبده ابنك بدلاً من الإخلاص لله.

ثانيًا: أن تصل به إلى الإحساس بالخزي واليأس  

تُخبرنا الدراسات التي قامت بها الباحثة  الأمريكية بيرني براون Brene Brown  بأن الشعور بالخزي أو العار والذي يُعبر عنه بالإنجليزية بـال(Shame) يختلف تمامًا عن الإحساس بالذنب الصحي (Guilt).  عندما نشعر بالذنب، نندفع إلى تحسين أحوالنا وتصحيح مسارنا وتعديل أخطاءنا بالاعتذار أو التراجع، بينما عندما نشعر بالعار والخزي فإننا ننكمش ونشعر بأنه لا مجال للتعديل أو التطوير لأن الشعور بالخزي يؤثر في كينونتنا بشكل مباشر. عندما يشعر الفرد بالذنب تكون ردة فعله المباشرة: أنا أخطأت كيف يُمكنني أن أصلح الخطأ؟، بينما عندما يشعر بالخزي فردة فعله المباشرة: كم أنا سيئ !، لا أظن أنني أستطيع فعل شيء حيال ذلك.

في حين أن دراسة الشعور بالخزي يُعد أمرًا مُستحدثًا في مجالات العلوم الإنسانية اليوم، إلاّ أن الاستعاذة من هذا الشعور كانت أحد التوجيهات النبوية التي تركها فينا رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم حين علمنا الدعاء المشهور: اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها و أجرنا من خزي الدُنيا وعذاب الآخرة. وكأن الرحمة المُحمدية كانت أسبق من الأبحاث المعاصرة في حمايتنا من الذل المُرافق لهذا الإحساس، وأَحرَص علينا من اليأس الناتج عنه. فالشعور بالخزي يدفع الفرد إلى الإحساس باليأس، واليأس أقرب ما يكون إلى الكفر.

وللأسف الكثير من الآباء والأمهات يستهدفون إشعار أبنائهم بالذنب، لكن ما يفعلونه بشكل غير مقصود هو اشعارهم بالخزي والعار مما يجعل الأبناء أبعد ما يكون عن التغيير الإيجابي لأن الرسالة التي تصل إليهم أنك حالة ميؤوس منها وأنا كوالدك/والدتك مُتعبة منك.

 لذلك هذه دعوة وتنبيه من أن تكون ممن قال فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيح مُسلم: إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم. ويُقال أن هذا الحديث نُقل بلفظين بفتح الكاف وبضم الكاف. فيقول القاضي عياض في شرح هذا الحديث بأن الحديث يعني بضم الكاف بأن الشخص الذي يقول أن الناس هلكوا، هو أول من هلك لعِجبه ولاستصغاره واحتقاره للناس. و أن الحديث يعني بفتح الكاف في كلمة هو أهلَكَهم بأنه هو الذي آيسهم من رحمة الله وأبعدهم عن الله وقرر هلاكهم.

رابعًا: ماذا عن الأمانة التي أمرني الله بالحفاظ عليها ورعايتها؟

ربما تكون صدقًا من الآباء والأمهات المدفوعين بالخوف من الله في تعاملاتهم مع أبنائهم.  فأنت لا ترتجي من تربيتك لأبنائك صورة اجتماعية مُعينة، ولا تُحاول أن تُضمد بهم جراحًا شخصية، وأنت مُتأكد أن الأمر ليس له علاقة بإيجاد دور والدي جديد في حياتك. أنت تعرف بأن أكثر ما يؤرقك هو أداء حق الله في أبنائك مُتبعًا حديث: ” كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته”، وأداء واجبك الشرعي كمُسلم ينتمي لخير أمة أخرجت للناس (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المُنكر وتؤمنون بالله). هذا ما تستحضره في كل مرة تُشاهد ابنك/ابنتك يتهاونون في أمر الله. لا يُغضبك شيء بقدر غضبك على جُرأتهم في معاصيهم. هذه مشاعر لا يُستهان بها وإن دلت على شيء تدل على قلبٍ حيٍ ومُحب. لكن دعنا نتوقف قليلاً ونُعيد التأمل في هذه المعاني الدينية المُهمة:

وقفة في آداب الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر:

نحن نسمع كثيرًا عن أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر، ونحن هُنا لا نقصد بأي حال من الأحوال التقليل من أهمية هذه الشعيرة العظيمة بل على العكس نؤكد على ضرورة استمرارها داخل بيوتنا ومع أحبابنا وأهلونا وكل من مرّ علينا لكن حتى نحافظ على مُراد الله من هذه الشعيرة علينا أن نقوم بدراستها والتأمل فيها واختبارها على واقعنا المُعاصر. ولن يسع المجال في هذه المقالة أن نتكلم عن كل تفاصيلها لذلك أشُجعك على قراءة كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كتاب احياء علوم الدين الشهير للإمام الغزالي. لكن هُناك نقطتين ضرورتين أود الإشارة إليها بهذا الخصوص ويذكرها الإمام الغزالي رحمه الله:

  • أن يتحلى المُحتسب بحُسن الخُلق والتلطف والشفقة: يؤكد الغزالي في مواقع مُختلفة في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على أهمية حُسن الخلق حتى يقول بأن حُسن الخلق هو أصل الباب وأساسه. وبأن المرء لا ينفعه علمه وورعه فقط في حُسبته ونُصحه، ويُشدد على ذلك فيقول إن التعريف -تعريف الفرد بذنبه- كشفًا للعورة وإيذاءً للقلب، لذلك لا بد أن يُعالج دفع أذاه بلطف الرفق، فيتلطف من غير إيذاء لأن إيذاء المُسلم حرام محذور ومن اجتنب محذور السكوت على المنكر وأستبدل عنه مُحذور الايذاء للمسلم فقد غسل الدم بالبول على التحقيق. واسترسل في ذلك فقال يجب على المُحتسب أن ينظر إلى العاصي نظرة المُترحم عليه، وأن لا يشعر بعزّ نفسه وذل العاصي لأن الكبر منكر أقبح من المنكر الذي يتعرض عليه فيكون المُحتسب مثله مثل من يُخلّص غيره من النار بإحراق نفسه وهذا غاية الجهل.
  • أن لا يكون دفعه للمنكر يُفضي إلى منكر آخر: فالأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر ليس دائمًا واجب على المسلم، وإنما في بعض الأحيان مُستحب، وفي أحيانًا أخرى مكروه أو مُحرم وذلك يتفاوت بتفاوت شروط كثيرة من أهمها القُدرة. وفي القدرة يقول الغزالي لا يحل لمسلم أن يدفع منكر وهو يعلم بأنه يفضي بالمُحتسب عليه إلى منكر آخر. فلو طبقنا هذا داخل بيوتنا لوجدنا أحيانًا بأن إنكار المُنكر على أبنائنا يؤدي بهم إلى مُنكر أكبر مثل رفع الصوت عليك كأب/ أو أم، أو بالقطيعة في أسوأ الأحوال والعقوق وهي أكبر المُنكرات.

وقفة في رعاية الأهل ووقايتهم من النار:

يؤرق كثير من الآباء والأمهات حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في صحيح بُخاري: ” ألا كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام الذي على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم…. إلى آخر الحديث”، والكثير من النقاشات داخل صالة المنزل تبدأ من هذا الحديث وتنتهي به. يُساء فهم هذا الحديث من عدة وجوه لكن أهمها هو أن (مسؤول عن رعيته) تعني مسؤول حتى عن ذنوبهم. ومن أغرب ما وصلني مؤخرًا من رسائل الواتس أب تغريدة في تويتر اتسع انتشارها أن امرأة سئلت لماذا تلبسين الفضفاض فقالت أخاف أن يقف أبي مُحاسبًا عن إضاعة رعيته، فسُحقًا للأناقة التي تعذب أبي.

كم هي فكرة مُرعبة أن يتصور الآباء والأمهات أن الله سيُحاسبهم على ذنوب أبناءهم ومعاصيهم. إنها فكرة ببساطة مُخالفة لما جاء به القرآن من قصص ومن أحكام بالتصريح دون التلميح. فهناك الكثير من الآيات التي توضح بأن كل فرد مُحاسب على ذنوبه وحده مثل قول الله تعالى ” ولا تزر وازرة وزر أخرى”

ولنعود لحديث الرعية: ففي شرح هذا الحديث في أبرز شروحات صحيح البُخاري: فتح الباري في شرح صحيح البخاري لابن حجر يقول بأن الرجل راع على أهل بيته تعني سياسته لأمرهم وإيصالهم لحقوقهم. وفي إرشاد الساري للقسطلاني تعني الرعاية أن يقوم عليهم بحق النفقة وحُسن العشرة. أي أنه لا يُوجد شرح مُعتبر لصحيح البُخاري يوحي بأن هذا الحديث يُحمل أولياء الأمور مسئولية ذنوب ومعاصي أبنائهم الراشدين.

وأخيرًا: لك عزيزي الأب/ عزيزتي الأم الكثير من السلوان والمؤازرة في قصة سيدنا نوح عليه السلام الذي أفرغ الوسع في نُصح ابنه ولم ينجح. هذه القصة لا تعكس فشل سيدنا نوح عليه السلام وهو من أولي العزم من الرسل وإنما هداية لقلبك تُرشدك لمحدودية تأثيرك كبشر فإنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء.

خامسًا وأخيرًا: الرحمة ثم الدُعاء ثم الدعاء ثم الدعاء

الرحمة والعطف على أبنائك ليست بدعة حديثة، ولا تواطؤًا مع نمط الحياة المُعاصرة المُتهاون وإنما أساسًا جوهريًا في ديننا الحنيف. فهذا الكون كُله دليلاً حيًا على رحمة الله، ونتيجة لهذه الرحمة.  سبحانه كتب على نفسه الرحمة، وجعلها سابقة لغضبه. وبعث الله الرسول صلى الله عليه وسلم فينا رحمة للعالمين. فالالتزام بالرحمة في تعاملاتك كلها ومع ابنائك خصوصًا فيه تخلقٌ بأخلاق الله وأخلاق نبيه صلى الله عليه وسلم. ففي تفسير آية (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) في التحرير والتنوير لابن عاشور يقول: فِيهِ إيماءٌ لَطِيفٌ إلى أنَّ الرَّسُولَ اتَّحَدَ بِالرَّحْمَةِ وانْحَصَرَ فِيها، ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ عُنْوانَ الرَّسُولِيَّةِ مُلازِمٌ لَهُ في سائِرِ أحْوالِهِ، فَصارَ وُجُودُهُ رَحْمَةً وسائِرُ أكْوانِهِ رَحْمَةً. ووُقُوعُ الوَصْفِ مَصْدَرًا يُفِيدُ المُبالَغَةَ في هَذا الِاتِّحادِ بِحَيْثُ تَكُونُ الرَّحْمَةُ صِفَةً مُتَمَكِّنَةً مِن إرْسالِهِ، ويَدُلُّ لِهَذا المَعْنى ما أشارَ إلى شَرْحِهِ النَّبِيءُ ﷺ بِقَوْلِهِ «إنَّما أنا رَحْمَةٌ مُهْداةٌ» . وتَفْصِيلُ ذَلِكَ يَظْهَرُ في مَظْهَرَيْنِ: الأوَّلُ تَخَلُّقُ نَفْسِهِ الزَّكِيَّةِ بِخُلُقِ الرَّحْمَةِ، والثّانِي إحاطَةُ الرَّحْمَةِ بِتَصارِيفِ شَرِيعَتِهِ.

فالأصل في الدين الرحمة، والأصل في الدعوة إليه التبشير ففي الحديث في الصحيحين البُخاري ومسلم يقول صلى الله عليه وسلم: ” بشرّوا ولا تنفروا، ويسروّا ولا تُعسروا”

كيف تُترجم هذه الرحمة في دعوة أبنائك إلى الله؟

  • عليك أن لا تحصر نقاشاتك كُلها في الانتقاد والتوجيه وابداء الملاحظات فمن رحمة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان يُشارك الناس همومهم وأفراحهم وأتراحهم. ابنك لا ينحصر في معاصيه، ابنتك لا تنحصر في شكل حجابها، هذه المعاصي جُزء من خبرتها المُعاشة وجُزء من طريقها لله، لكنها ليست كل ما لديهم. حاول أن تنظر إلى الصورة الكاملة، أن تتلمس الخير فيهم، أن تُذكر نفسك بأن الأصل أن ابنك يعرف الله فهو فُطر على هذه المعرفة.
  • تذكر بأن الأصل في التشريع هو تعريفنا بالله، وتأصيل علاقتنا به. والقرآن نزل لهذا الغرض فمن مُجمل آيات القرآن ال٦٢٣٦ آية هُناك فقط ما يُقارب ال٢٠٠ آية إلى ٥٠٠ آية هي المُتعلقة بالأحكام الفقهية. نعم التهاون في الحجاب، والتهاون في الصلاة، وغيرها هي من المحاذير الشرعية والمعاصي لكن كُلنا لدينا معاصي أنا وأنت والجميع. تحجيم الدين في قليلٍ من أحكامه الفقهية الظاهرية يفتن أبنائك ويُبعدهم عن الله. ماذا عن الأخلاق، وعن العبادات القلبية؟ من رحمتك بأبنائك أن تُذكر نفسك وتُذكرهم بالله وبسعة رحمته.
  • عليك أن تتذكر بأنك جُزء من اختبار الله لابنك في هذه الحياة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رحم الله والدًا أعان ولده على بره) وفي الأثر بأن بعض الصالحين كان لا يأمر ولده بأمرٍ مخافة أن يعصيه في ذلك الأمر فيستوجب النار.

وأخيرًا: أنا وأنت وشريكك في التربية وابنائك موكولين لرحمة الله ولطفه، نحن لا نملك هداية لأنفسنا حتى نضمنها لغيرنا فتوجه إلى الله وتضرع له واسأله الهداية لك ولأبنائك ولجميع أحبابك.

المراجع:

  • كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر من احياء علوم الدين للإمام الغزالي
    • كتاب البركة في فضل السعي والحركة وما يُنجي بإذن الله من الهلكة، تأليف الإمام جمال الدين الحبيشي
    • تفسير التحرير والتنوير لمحمد الطاهر ابن عاشور
    • فتح الباري في شرح البُخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني- كتاب الأحكام
    • ارشاد الساري لشرح صحيح البخاري لأحمد بن محمد بن أبى بكر بن عبد الملك القسطلاني
  • Brown, B. (2012). Daring greatly: How the courage to be vulnerable transforms the way we live, Love, parent, and lead. Baker & Taylor.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

9 − 8 =

5 تعليقات

  1. رنيمsays:

    من أجمل ما قرأت، بارك الله فيكم، ونفع بكم، وأصلح بناتنا وأولادنا🌸.

  2. صفية الجفريsays:

    مقالة موفقة ومهمة وتعد إضافة جادة ..
    أسلوب الكتابة ومنهجية التفكير وعمق الفهم .ماشاء الله

  3. أم إبراهيمsays:

    موضوع رائع وجميل جدا .. رتب افكاري ولمس مشاعري كأم اتجاه اطفالي وأيضا أزاح جزء كبير من حملٍ لم أعرف أنه ليس لي.. شكرا

Join our mailing list

Be the first to know about our new products and promotions and enjoy the enriching weekly newsletters.