اختبار القيم | حين تخبرك التجربة عن نفسك مالم تكن تعلمه

post Image>

انتهاك : 

كيف يمكن للقيود القاسية وغير المراعية أن تنتهك صدق أكثر الناس نقاء وتدينًا ؟ لقد رافقني هذا السؤال وأنا أقرأ تفاصيل رحلة أمينة في رواية ( بين القصرين ) من منزلها إلى مسجد سيدنا الحسين القريب، وقلبها مضطرب، وروحها ممزقة بين شوقها لزيارة سيدنا الحسين و خوفها العظيم من أن يعلم زوجها أحمد عبد الجواد بخروجها إلى المسجد دون علمه. لقد كانت أمينة طاهرة القلب، عميقة التدين، حريصة على رضا ربها، لكن قلبها قد طال عليه أمد الشوق، وزوجها يضيّق عليها في الخروج من المنزل، وهي تحب زوجها و تعظّمه، وتعد خضوعها له دينًا وتقوى لكن حبها لزيارة مسجد سيدنا الحسين غلبها، والوقت مُتسع لتقوم بالأمر من غير علمه، هكذا حدّثت نفسها.

 لقد انتهكت قيود الزوج غير المراعية صدق أمينة -ظاهرًا -، وأوقعتها في صراع غير منصف بين قيمتين تتعلق “بمفهومها عن التدين”  قيمة حبها لزيارة سيدنا الحسين رضي الله عنه وقيمة طاعة زوجها، واختارت أمينة أن تكذب، وضميرها يئن خوفًا وقلقًا، وهكذا تفعل القيود المتطرفة بالقلوب الصالحة فكيف بغيرها ؟ 

يتعامل الناس مع أحكام الدين كقوالب جامدة مجردة عن مراعاة الزمان والمكان والحال، وتغيب عن الوعي الجمعي الديني فكرة التفريق بين الحكم الفقهي في صورته الأولى المجردة وبين الحكم الفقهي عندما نتوجه به إلى الواقع الذي قد يختلف من إنسان إلى آخر بحسب أحواله، من أمثلة ذلك أن تعمم فكرة استحباب أن يتزوج المسلم، دون نظر إلى أن العلماء جعلوا مسألة الزواج ترتبط بحاجة الإنسان وقدرته النفسية والجسدية والمادية، ونبه بعض العلماء على أن من يعلم من نفسه أنه إذا تزوج ظلم زوجته، فإنه يحرم عليه الزواج في هذه الحال. هذه الفكرة وهي تغير الحكم الفقهي في حق كل إنسان بحسب حاله، هي فكرة تحمي القيم العامة من أن تغتال حق الأفراد في موازنات تحفظ لهم حقهم الإنساني في مراعاة احتياجاتهم، وتصون حقهم في رعاية حدودهم الشخصية دون أن تنتهك بفضول الكلام أو فضول الظنون. 

في قصة أمينة جسّد لنا الأستاذ نجيب محفوظ كيف يمكن لقيم المجتمع في خضوع النساء لأزواجهن أن تغيّب تماما حق الزوجات في حياة روحية آمنة، وكيف يمكن للمفاهيم الدينية المتطرّفة أن تربك القلب المتديّن . 

 يحدّثنا الإمام الشاطبي عما أسماه بتحقيق المناط الخاص، أي أن ينظر العالم في حال الشخص الذي يتعامل معه ويفتيه بما يناسب حاله، يقول الإمام الشاطبي في الموافقات : ” فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نورا يعرف به النفوس ومراميها، وتفاوت إدراكها، وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها، فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها .”.

مكاشفات التجربة: 

ينص القرآن العظيم في أكثر من موضع عن أن الدين جاء ليحيي القلوب، وهل تحيا القلوب إلا بأن يحيا صاحبها دون أن ينتهك حقه في حياة لا حرج فيها ولا عنت ؟ 

قد تخبرنا تجربتنا الخاصة عن أنفسنا ما لم نكن نعلمه، نكتشف عن طريقها حدودنا الخاصة، ما يمكننا أن نتعايش معه، ومالا يمكننا أن نتعايش معه، و لذلك فليكن لكل منا ميزانه الخاص في التعامل مع أحكام الشرع، فإذا ضاق أمر ما عليه ضيقا يخرجه إلى حال الضرورة النفسية قهرا أو ألما أو حيرة، فليعلم أن الشرع رحمة ونور لا مشقة وظلمة، وعليه أن يستفتي عالما بصيرا يعينه على  البقاء في ساحة الشريعة وقلبه مطمئن، فالأمر إذا ضاق اتسع، والله عز وجل يقول في محكم تنزيله: ( يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا ).النساء: آية 28 .

الصراع الذي وقعت فيه أمينة بين قيمتين متصلتين بتدينها ، قيمة طاعة الزوج، وقيمة التعبد لله عز وجل بزيارة مسجد سيدنا الحسين –رضي الله عنه – ، هو صراع خلقته تجربة حبسها عن الخروج، ووجدت أمينة نفسها في اختبار قيمي جديد عليها، وكشفت لها التجربة أن قدرتها على الالتزام بما تعتقده واجبا عليها من طاعة الزوج هي قدرة محدودة هزمها شوقها الروحي للتعبد  هذه أمينة وهذه ارتباكاتها التي نتجت عن اعتقادها بتديّن بعيد عن الفقه، وهكذا يفعل  التدين الجاهل بنفوس الناس واستقرارها . 

والتحقيق في هذه المسألة هو أن طاعة الزوج إنما تكون فيما لا يخل بحقوق الزوجة الأصلية في حياة لا عنت فيها، وإنما تطيعه فيما لا يضرّها، ولا يشوّش عليها حياتها، وفيما هو حق مشترك بينهما وهو أن لا يحرم أحد الزوجين الآخر من السكن النفسي والجنسي والأسري والاجتماعي. 

وهنا أمر مهم وهو أن عملية الانتقال بالحكم الفقهي من صورته الأصلية المجرّدة إلى الصورة التي تلائم واقع الفرد، أو المجتمع، هي عملية تتطلب نظرا من عالم متمكن، فهي عبارة عن تطابق كامل بين الأحكام الشرعية وتفاصيل الواقع، بحيث لا يقع إهمال أي عنصر له تأثير من قريب أو بعيد، فيدقق العالم في الدليل بشقيه الكلي والجزئي، وفي الواقع بتقلباته وإكراهاته، وما يترتب على الحكم صلاحًا وفسادًا.

فالشريعة ليست فقط الأدلة التفصيلية الجزئية، ولا هي مجرد قواعد عامة عائمة، ولا قيم مجرّدة -كقاعدة أن الأمر إذا ضاق اتسع – و المفتي لا يجب أن ينظر إلى النص الجزئي إلا من خلال القواعد الكلية، كما لا يصح أن يفعّل القواعد الكلية دون مراعاة للنص الجزئي. فإذا بدا أن هناك تعارض بين ما يقرره النص التفصيلي أو الجزئي في مسألة ما وبين القواعد الكلية، ينظر العالم المجتهد في المسألة ويوازن بما يراه أقرب إلى الحق كما يترجح عنده من خلال خبرته في فهم روح الشريعة، فقد يقدم الكلي، وقد يقدّم الجزئي. ولا يكون ذلك لغير أهل الاجتهاد والعلم بطرق الاستنباط.  

تكامل : 

طبيعة العلاقات الإنسانية تجعلنا -غالبًا- في حالة مواءمة بين القيم التي نؤمن بها، تسمي ايدا لوشان – في كتابها أزمة منتصف العمر الرائعة – هذه المواءمة تناقضًا وتقول إننا مضطرين إلى هذا التناقض على حساب أنفسنا أو على حساب الآخرين. 

الالتزام بالقيم هو طريق تحقيق جودة الحياة ، وتختلف المناهج الدينية والبشرية في  نظرتها الفلسفية والتطبيقية لمسألة القيم، لكنها تتفق في أن الالتزام القيمي هو فعل ناضج مسؤول.

إن معضلة المواءمة بين القيم أو كما يسميها أهل الفقه: الموازنة جمعا أو ترجيحا بين النص الجزئي والقواعد الكلية هي من أهم المعضلات المتعلقة بجودة الحياة. 

إن هذه المواءمة -التي تسميها ايدا لوشان تناقضًا- هي المحك الحقيقي في ديننا لخيرية الإنسان، كيف يهتدي الإنسان بنور الشريعة لكي لا يظلم نفسه ولا يظلم الآخرين في موازنة تحفظ منظومة القيم على وصف التكامل والتعاضد.

الكلام في هذه المسألة يظل تنظيرا مهما حشدنا من أمثلة، لأن الموازنة القيمية في منظومتنا المعرفية الدينية تتصل بالواقع الخاص للفرد أو للمجتمع في حالة معينة ، أو زمن معين ، أو مكان معين. 

 من أمثلة ذلك أن يضطر الإنسان إلى الاستمرار في صلة رحمه الذين يبغضهم لسوء طباعهم  رعاية لحق الرحم وفقًا لضميره الديني. إن  فعله هذا -وفقا لايدا لوشان- هو فعل متناقض فهو يخل بقيمة حفظ نفسه عما يكدرها في مقابل تمسكه بقيمة صلة الرحم، وهو في الرؤية الدينية مواءمة ضرورية لحفظ جودة الحياة، والتعبير القرآني جلّى ذلك تجلية تربط المسلم بالرؤية المعرفية التي يتبناها الدين في التشريع، وهي مصلحية الأحكام، أو كون الأحكام شرعت لمصلحة العباد، قال تعالى : ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطّعوا أرحامكم ). (سورة محمد: 22). فجعل القرآن الكريم قطع الأرحام من وسائل الإفساد في الأرض.

أمرنا الله بصلة الرحم، وجعل الإخلال بها سببا للإفساد في الأرض، هذا هو الأصل، فإذا كانت هذه الصلة في حال ما تؤدي إلى ضرر بيّن على الواصل، هنا تراعى الضرورة، وتقدّر بقدرها، ويحتاج صاحب هذه الحال إلى استفتاء عالم يثق في دينه وعلمه وحكمته ليعينه على استجلاء طريق الموازنة بين حق نفسه وحق الرحم.

لعل دعوى التناقض الضروري بين القيم هي دعوى باطلة، وإنما يحصل التناقض إذا روعيت بعض القيم مراعاة تخل بمنظومة القيم ككل.

في المثال الذي ذكرناه عن صلة القريب المؤذي، قد يفتي العالم القريب الذي يقع عليه الأذى بأن لا يصل قريبه دفعا لضرره، لكن هذه الفتوى تكون مقيّدة باستمرار قدرة القريب على الإضرار، فإذا صار القريب المؤذي عاجزا عن الإيذاء، وارتفع الأذى المعنوي، فيعود حينها حقه في الصلة، ولا يقال باستصحاب حال الضرورة التي لأجلها سقط حق المؤذي في الصلة لضرره؛ لأن الضرورة انتهت. 

فلو أننا قلنا إن حق القريب المؤذي في الصلة سقط مطلقا بدون تقييد بقدرته على الإضرار لوقعنا في الإخلال بالتكامل القيمي الذي يحفظ جودة الحياة وفقا للرؤية المعرفية التي يقدمها الدين. وهنا لا بد من التأكيد مرة أخرى على أن الأمثلة في هذه المسائل تنتمي للتنظير أيضا، ففي مسألتنا عن ضرر القريب تتعدد الصور وتتعدد الفتوى تبعا لتعددها، وكل ذلك يدل على حياة القيم، وعدم جمودها وقولبتها، وكونها تتفاعل مع واقع الإنسان ولا تصطدم بضروراته وحاجاته الحقوقية. 

في مسألة المواءمات القيمية يهديك العلم، وينير الطريق لقلبك، وفي ثقافتنا الدينية الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبين الحلال والحرام أمور مشتبهات يسترشد المسلم فيها بسؤال أهل العلم الراسخين الذين يساعدونه لمقاربة مقصد الشرع، وحماية نفسه من العنت، وتحصيل الأمان النفسي عبر اتساق قيمه وتكاملها.

المراجع : 

  • القرآن الكريم.
  • الموافقات في أصول الشريعة. الشاطبي. 
  • تنبيه المراجع على تأصيل فقه الواقع. عبد الله بن بيه . 
  • الثبات والتغير في الحكم الفقهي . صفية الجفري .
  • بين القصرين . نجيب محفوظ . 
  • الإنسانوية. ستيفن لو . ترجمة: ضياء ورّاد . 
  • أزمة منتصف العمر الرائعة. ايدا لوشان. ترجمة سهير صبري .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

9 − ستة =

13 تعليق

  1. عمارsays:

    القيم هكذا تبدو كشبكة عنكبوتية يتأثر بعضها ببعض وتتشكل خريطتها الكلية بهذا التداخل المثري والذي يستطيع معالجة أعقد القضايا دون الاتكاء على عامل محدد واحد يطغى على كل شيء ويقدم إجابات سطحية ومتسرعة.
    سُعدت بقراءة هذا المقال.

  2. عاطف حسانينsays:

    مقال رااائع بتأصيله ومبناه ومعناه.. موفقة ايتها الكاتبه المتفردة

  3. عاطف حسانينsays:

    مقال رااائع بتأصيله ومبناه ومعناه.. موفقة ايتها الكاتبه المتفردة

  4. ملاكsays:

    جزاكي الله خير فعلا بعض الأزواج بإسم الدين يتحكم في زوجته كمنعها من دراسة او عمل أو حتى قضاء وقت لنفسها بإختصار يمنعها تعيش حياتها عامل العلاقة الزوجية كالعبودية وحاشا لله ان يظلم المرأة بالعكس كرم المرأة واعطاها حقوقها كاملة

  5. هند إبراهيمsays:

    شكرا علي هذا المنظور الجديد فقد مررت كثيرا بقصة أمينة و لم استخرج هذا المعني .
    كما أن الدين و تشريعات الله فهي لحماية الانسان و خاصة معنويا فهي الملجأ بالنسة لي من تخبطات الحياة و ما يشق علي فيها ، فالحمد لله .

  6. سارة الخالديsays:

    أفتنُ بقلمك يا صفية تبارك الرحمن، وتعجبني كتاباتُك جميعها، لكن هذا المقال على التخصيص بديع وقيّم ويبحثُ في محاور مهمة جدًا وأساسية، والمحاور الثلاث الرئيسية التي عكفتِ في المقال على تحليلها:
    ١- تفاضُل مجموعة القيم أمام واقع التجربة.
    ٢- والموازنة بين الحكم الشرعي والقيم العامة.
    ٣-واخيرًا اختبارُ التجربة؛ وأثرُه على قيم الإنسان.
    بودّي لو تتمين حديثكِ هنا بجزءٍ ثانٍ تشرحين فيه المحاور السابقة بشيءٍ من التفصلين، خاصة محور مراعاة الفقيه لحالة المستفتي ووضعه حال استفتائه؛ لقلةِ الموضوعات التي تبحثُ في هذا الموضوع.
    لا عدمنا قلمِك ونبضه يا صفية.

Join our mailing list

Be the first to know about our new products and promotions and enjoy the enriching weekly newsletters.