وقَبِلت نفسي

post Image>

كتب الرافعي في ” أوراق الورد” :” قالوا (أما بعدُ) وسموها فصل الخطاب، وأنا أقول (أما قبل) وأسميها وصل الماضي؛ وبها نجعل لما فاتنا مما نحبه أو نؤثره لسانًا، ونعيد إليه الصوت، ونفتح له باب الساعة التي نكون فيها.” . 

استدعيت هذه السطور من أوراق الورد حين ذقت لأول مرة في حياتي معنى أن يكون قبول النفس هو القيمة الوجودية التي أنطلق منها في طريقي الجديد.

أما قبل :

كانت تجربة قاسية تلك التي مررت بها ، والتجارب القاسية نور وبرهان ، هكذا تعلمت لاحقا، ومن تجربتي هذه كانت انطلاقتي في عالم المعاني ، اكتشف من جديد ، علاقتي بنفسي ، وربي ، والناس ، والحياة  .. 

كثفت قراءاتي الدينية والنفسية لأتبيّن هويتي الجديدة، نعم، فبعد كل تجربة تهز كياننا ، نحن نتخلّق من جديد ، نصير خلقا آخر ، في مشاعرنا ، وطريقة تفكيرنا ، ونظرتنا للأمور ، واستحضرت معنى شريفا سمعته من أحد العلماء من قديم وهو أن المسلم في توبة متجددة ، وليس الذنب وحده هو ما تتعلق به التوبة ، بل تتعلق التوبة بمعنى الترقي في الكمالات الإنسانية، والفهم المتجدد لمعاني التحقق بالقيم النبيلة ، و التزكي الذي هو طريق الفلاح في الدنيا والآخرة ، ولذلك كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم له ورد من الاستغفار ، وهو كما قال عنه الشيخ الديبعي الشافعي : ” لكل كمال منه كمال ” صلى الله عليه وآله وسلم . 

كانت القراءات المتعددة تعينني على تلمّس طريق المعنى لكني كنت أشعر بأني أفتقد منظورا          تنتظم به المعاني التي أعيد بها ترتيب عالمي الداخلي ، ثم كان لقائي بكتاب : ” لا بطعم الفلامنكو ” للدكتور محمد طه ، وفهمت حينها أن المنظور الذي كان ينقصني هو قبول النفس . 

نموذج الخطوات الأربعة :

قدّم الدكتور محمد طه في الفصل الأخير من كتابه : ” لا بطعم الفلامنكو ” نموذجا علاجيا  سماه: ” نموذج الخطوات الأربعة :” الاحتياج – ( الطلب) – الحق – القرار ” . وهذا النموذج بمثابة خارطة طريق فردية لفهم صعوبات النفس، ومساعدتها على النضج والنمو ، و في عمق ذلك قبولها. وقد صيغ هذا النموذج بعناية بحيث لا يحصل الانتفاع به إلا بدراسته دراسة متأنية . 

بعد دراستي لهذا النموذج استطعت أن أحسّن من طريقة تواصلي مع الآخرين . كانت لدي عثراتي في التواصل ، وكانت تلك العثرات تزعجني مرتين ، مرة لأني لا أرتضيها لنفسي ، ومرة لأني لا أفلح في أن أزكي نفسي عنها . 

ساعدني نموذج الخطوات الأربعة على فهم نفسي وقبولها، ووصلت حاضر نفسي بماضيها  و قلت لها ما قاله الرافعي لحبيبته في أوراق الورد :” ( لنجعل)  لما فاتنا مما نحبه أو نؤثره لسانًا، ونعيد إليه الصوت، ونفتح له باب الساعة التي نكون فيها.” . 

 فلما فهمت وقبلت ، اطمأنت نفسي، وأشرق عقلي ، وتعلمت ولا زلت أتعلم كيف أحسن سياسة نفسي ، وأعينها على عثراتها . 

الرضا عن النفس : 

في كتب التزكية نجد تأكيدا على ذم على الرضا عن النفس ، وجعله أساسا للحيدة عن طريق التزكي ، وقد كنت أفهم هذا الذم فهما يعمّق الفجوة بيني وبين قبول نفسي ، فكيف يرتقي في سلم الكمالات من رضي عن نفسه، وقبل نقصانها ؟ .

 ثم تبيّن لي أن قبول النقصان والقصور في أنفسنا الذي نهينا عنه إنما هو القبول المنقطع عن شهود معنى الرضا باختيار الله لنا أن تكون لنا طبيعتنا الخاصة بمحاسنها ونقائصها، وقوتها وضعفها، فنحن نقبل طبيعتنا قبول تعبّد لله، ورضا بقضائه، ويقين بأنه إنما قدّر لنا كمال الخير ، فيكون نقصنا بهذا الاعتبار هو عين كمالنا ، ويكون قبولنا لطبيعتنا هو قبول محبة لقدر الله ، وقبول تفكر في طريق تحقيق مراد الله منا بما يلائم الطبيعة التي خلقنا الله عليها.

إذا قبلنا أنفسنا بهذا المعنى جنبناها صراعا وجوديا يحول بينها وبين السكينة في رحلة التزكي، وكنا عونا لها على اختيار الطريق الذي يناسب طبيعتها. قال الإمام زروق المالكي – ما معناه -: ما ركّب في الطباع معين للنفوس على ما تريده بحسب قواها .. وإذا اختار المرء ما هو أقرب لطبيعته من الأذكار والأوراد كان معينا له على المداومة عليه … وما دُخل بانبساط كان أدعى للدوام .. 

وقال :  ” وقد أغرق قوم في مخالفة النفس حتى خالفوا الحق في طي ذلك، ومنه … تركهم جملة من السنن لإلفها – أي لأن أنفسهم تألفها – مع ترك ما أُلف منها – أي ما ألفته أنفسهم منها – . وهذا وإن كان مؤثر في النفس فهو مثير للباطل، وصاير بصاحبه لعكس القصد ، نسأل الله العافية.” 

على عدد أنفاس الخلائق 

نقل عن بعض الصالحين قولهم إن الطرق إلى الله على عدد أنفاس الخلائق، و لعل  من مرادهم  بيان أن الناس لا يحملون على نهج واحد في الالتزام بالمستحبات وتجنب المكروهات ، بل يختار كل إنسان ما يناسب طبيعته الجسدية والنفسية من عبادات مستحبة ، فما يكون كمالا في حق بعض الناس، قد يكون نقصا في حق آخرين، لأنهم لا يطيقونه؛ ولذلك جاءت أحكام الشرع المرغب فيها في رتبتين : رتبة الواجب وهي الرتبة التي يطيقها جميع الناس في غالب الأحوال، ورتبة المستحب: وتختص بالكمالات التي يتفاوت الناس في القدرة على التحقق بها، كما جاءت أحكام الشرع المنهي عنها في رتبتين : رتبة الحرام : وهي الرتبة التي يطيق الانتهاء عنها جميع الناس في غالب الأحوال ، ورتبة المكروه : وتختص بالكمالات التي يتفاوت الناس في القدرة على تجنبها . فمن الناس من  لو حملوا أنفسهم على بعض المستحبات التعبدية أو الأخلاقية، لم يطيقوا التزامها  وكلفوا أنفسهم خلاف طبيعتهم الجسدية أو النفسية ، فأوقعوا أنفسهم في ظلمة التشدد الذي يقعد النفس عن الخير ، وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فقال :” إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا .” و جاء في الحديث الشريف أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على عائشة وعندها امرأة ، قال : من هذه ؟ . قالت فلانة، تذكر من صلاتها ، قال : مه ، عليكم ما تطيقون، فو الله لا يمل الله حتى تملوا وكان أحب الدين إليه ما دام عليه صاحبه. وبايع  النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه ألا يسألوا الناس شيئا.ولم يبايع الرسول صلى الله عليه وسلم جميع أصحابه على هذا الخلق مراعاة لاختلاف طبيعتهم وما يطيقونه . 

و من عجيب ما نقل عن سيدنا ابن مسعود –رضي الله عنه -أنه قيل له : وإنك لتقل الصوم ، قال : إنه يشغلني عن قراءة القرآن ، وقراءة القرآن أحب إلي منه. وحكى القاضي عياض عن ابن وهب من أئمة المالكية أنه حلف أن لا يصوم يوم عرفة أبدا؛ لأنه كان في الموقف يوما صائما وكان شديد الحر فاشتد عليه ، قال : فكان الناس ينتظرون الرحمة وأنا أنتظر الإفطار. 

لقد قبل سيدنا ابن مسعود – رضي الله عنه – و الإمام ابن وهب طبيعتهما الخاصة، وتعاملا معها بما يقربهما إلى الله قرب إقبال ، ومحبة ، ويسر، وأنس ، فقد يطيق أحدنا بعض العبادات أكثر مما سواها سواء كانت تلك العبادة تتعلق بالذكر أو الصلاة أو القرآن أو الحقوق المندوبة للناس ، فيكون طريق الكمالات الخاص به يتعلق بما يناسبه من عبادة مستحبة .  

عبادة الفرح : 

قال تعالى : ” قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون “.  من العبادة التي يغفل بعضنا عنها عبادة الفرح بالله ، وباختيار الله لما نحن عليه من حال كمال أو نقص، وما قدره لنا من انشراح ببعض العبادات التي أمرنا الله بها ، ومن الفقه أن يقبل الإنسان على ربه إقبال تسليم ، وهو يشهد فضله فيما وفقه الله إليه من طاعة ، وما هداه إليه من محاولات للترقي والتزكية ، وفي كل خير وهداية : قال تعالى “والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم “. 

لقد تعلمت أن انطلق في قبولي لنفسي بتجليات قوتها وضعفها من أنوار معنى الفرح بالله ،  وكان ذلك عونا لي على الطاعة ، وعونا لي على مزيد رحمة بنفسي ، وبالناس ، ومزيد تحقق بمعنى أن الشريعة تعيننا على أن تكون علاقتنا بالحياة علاقة ألفة وسلام لا جفوة وصراع . قال تعالى : ” وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ” . 

حرر في يوم الجمعة :21رمضان 1443هـ  الموافق 22 إبريل 2022م

Photo by Maria Orlova

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

1 + 7 =

4 تعليقات

  1. Huda Alisays:

    الله الله مقال جميل ، فتح الله عليك فتوح العارفين وزادك علماً ونورا

  2. تغريدsays:

    جزاكِ الله خير على المقالة الرائعة. الله يزيدكِ من فضله ويفتح عليكِ.

Join our mailing list

Be the first to know about our new products and promotions and enjoy the enriching weekly newsletters.