لماذا تنتعش نظريات المؤامرة؟

post Image>

كل شيء مخطط له مسبقًا من قبل جهات شريرة، وخططهم تسير بدقة وسلاسة بلا عرقلات غير متوقعة، والبشر جهلة ومجرد ألعوبة لا حول لهم ولا قوة. بدرجة أو بأخرى هذا الافتراض مشترك في كل نظريات المؤامرة، وهو الذي تبني عليه بعد ذلك القصة المشوقة والمرنة جدًا للمؤامرة.

هذه المقالة لا تنكر وجود مؤامرات، فالمؤامرات توجد بالفعل وفهمها كجزء من الحياة أمر طبيعي ويختلف عن ما أنتقده هنا. ما أنتقده هو العقلية المؤامراتية، أي التفكير المؤمن بنظرية المؤامرة الذي يرى المؤامرة في كل شيء فيتشكل لديه تصور واهم عن الواقع وفهم تبسيطي لأمور معقدة ومهمة. بالإضافة لذلك يؤدي التفكير المؤامراتي إلى تصور أن الأعداء على درجة فائقة جداً من الذكاء والمكر والتخطيط يستحيل معها مواجهتهم أو هزيمتهم كما يعطينا عذراً مريحاً لعدم مواجهة نقاط ضعفنا والاكتفاء بلوم المؤامرة. هذا النمط من التفكير مضر ويعطل قدرتنا على التفاعل المطلوب مع الأحداث من حولنا.

التآمر موجود في السلوك البشري لكنه ليس محكماً بشكل تام بل كثيراً ما تفشل المؤامرات. والقاريء في التاريخ يدرك ذلك بسهولة بل ويدرك ما هو أهم: أن الجهات المتهمة بالتآمر لم تكن تملك مخططاً واضحاً حتى في مؤامراتها بل كانت تتخبط وتخطط وتغير خططها مع كل خطوة وكانوا يتناحرون فيما بينهم وكانوا يخضعون لظروف مقاومة خارجية أيضاً.

كما أن وجود التآمر ليس حجة لترك العمل لأن التآمر ليس قاهراً فوق العباد ولا متفوقاً على القضاء والقدر مهما بلغ من الشدة (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ)، وقد تآمر كفار قريش على قتل النبي صلى الله عليه وسلم واجتمعوا عند داره فخرج من بينهم دون أن يروه وجعل يذر التراب على رؤوسهم وهو يتلو (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون).

الأفكار المؤامراتية قديمة قدم البشر، لكن ثمة ظروف خاصة بزماننا جعلتها تأخذ منحنيات جديدة وخطيرة سأقوم هنا بمناقشة بعضها.


التفسير السهل

العالم معقد، وعالمنا الحديث أشد تعقيدًا وتشابكًا من أي وقت مضى. لكي نفسر كل هذه الأحداث والظواهر المترابطة سنحتاج إلى كم معرفي وقدرات بحثية وصبر.. وأحيانًا مواجهة حقائق مؤلمة. بيد أن ذلك صعب ومضني، وأحيانًا مزعج ومؤلم! ومن هنا تأتي جاذبية نظريات المؤامرة كبديل سهل يزيح عنك العبء الفكري، ويختصر المسائل المعقدة في جواب واحد بسيط ومقاوم للحجة والبرهان: المؤامرة.

أحداث العالم معقدة فعلاً وتحتاج الإلمام بالكثير من الجوانب التاريخية والسياسية والاقتصادية، وفهم ديناميكية العلاقات الدولية، وربما يصرف الباحث الجاد سنوات مضنية لكي يفهم ظاهرة معقدة ما يكتفي العقل المؤامرتي بوصم الأمر كله على أنه مؤامرة خبيثة وانتهت القصة.

مثال: كيف نفهم صعود الصهيونية وانتصارها علينا؟ البحث يتطلب إحاطة مكثفة بكم كبير من المعلومات والمعطيات ونظرة واقعية وربما مؤلمة إلى عوامل ضعفنا و تشرذمنا، وهذا صعب. الأسهل هو أن تؤمن بأن المسألة لها تفسير واحد وهو أن اليهود يتحكمون في أمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا، ويتمتعون بدرجة أسطورية من الذكاء والدهاء والتخطيط المفصل والعمل الجماعي. المؤامرة بديل سهل ومبسط يُجنّب تعب البحث ويسمح لك بالالتفاف عليه، والأسوأ أنها تبرير مريح للعجز والقعود عن العمل.

وجدير بالملاحظة أن هذه النظريات هي غربية الأصل وليست من صناعتنا. ننسى عادة أن نظريات المؤامرة المفصلة هي صناعة غربية قمنا باستيرادها فقط، حتى نظريات المؤامرة اليوم عن جائحة كورونا أو خطر اللقاحات أو أن الأرض المسطحة أو أن الإنسان لم يهبط على القمر وغيرها، هي كلها أفكار تطورت في الغرب و تلقفناها نحن في زمن ضعفنا و تدهورنا الفكري. وهنا ظاهرة جانبية مثيرة بحق: لماذا تتطور نظريات المؤامرة بشكل كبير ومفصل في المجتمعات “العقلانية” و “العلمية” التي يفترض أنها تخلصت من الإيمانيات و الغيبيات والخرافات؟ لماذا مثلاً يوجد في أمريكا العلمانية ذات أفضل جامعات العالم نحو 12 مليون إنسان يؤمن بوجود زواحف فضائية متنكرة على شكل بشر وتحكم هذه الزواحف البلاد؟ ولكن هذا مبحث آخر.

حتى الإيمان بمؤامرة وجود تحكم يهودي عالمي في كل شيء فكرة ليست لها جذور في التراث الفكري الإسلامي، لكن لها جذور واضحة في الفكر الأوروبي. يصعب أن تجد في الأدبيات الاسلامية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أي ملمح مؤامراتي عن اليهود، بل وستجد مدحًا في بعض الأحيان. مثلًا في كل أعداد “العروة الوثقى” التي أصدرها محمد عبده وجمال الدين الأفغاني لا يوجد ذكر لليهود أصلًا، فكيف برزت لدينا هذه الأفكار فجأة؟ الحقيقة أننا لجأنا إليها حين احتجنا لتفسير صدمة النكبة وانتصار الصهيونية، فوجدنا أن هناك في الغرب من كتب بالتفصيل عن نظريات مؤامرة يهودية فقمنا بتبنيها كحل سهل يُفسر ما حصل.

في عام 1908 قام مجموعة من الضباط في الدولة العثمانية بالتمرد على السلطان عبد الحميد، فكتبت السفارة البريطانية بإسطنبول إلى حكوماتها للتحذير من أن هؤلاء الضباط جزء من مؤامرة يهودية ماسونية. كانت تلك النبرة شائعة في أجواء الفوبيا من اليهود التي هيمنت على الكثير من التفكير الأوروبي – ننسى عادة أن المعاداة العنصرية والعنيفة لليهود ظاهرة أوروبية بشكل كبير – وقد تجلى ذلك  أكثر ما تجلى في كتاب “بروتوكولات حكماء صهيون” وهو كتاب مكذوب ومزيف أدى لآثار دموية وتلته كتب أخرى مثل “أحجار على رقعة الشطرنج” وغيره. هذه الأفكار ظلت أوروبية بدرجة عالية، ولكن مع تصاعد الأحداث، وتنامي الخطر الجديد للصهيونية، تسربت إلينا وتلقفها الكثيرون بلهفة في ظل التعطش لفهم ما يجري، وقد كانت الحل المناسب، لكونها حجة سهلة ومباشرة لتفسير الأحداث الصادمة والمتتالية، كانهيار الدولة العثمانية، و علمنة تركيا الحديثة، و استعمار الأراضي العربية، ونشوء إسرائيل، وغيرها. دون الخوض في تعقيدات الوضع الحقيقية، ودون مواجهة صعبة مع الذات. ظاهرة صعود “الاتحاد والترقي” ظاهرة معقدة تتطلب دراسة جادة لظروف أواخر الدولة العثمانية والأوضاع البلقانية وتنامي تيارات الحداثة داخل النخبة العثمانية وغير ذلك. خوض هذا الغمار صعب، الأسهل أن نأخذ كلام الدبلوماسية الأوروبية والقول بأن “الاتحاد والترقي” كانوا عبارة عن جواسسيس يهود هدفهم القضاء على الإسلام.

الآن وبعد أكثر من قرن على تلك الأحداث، نرى ذات النمط في حالات أخرى كثيرة: كيف يفهم المواطن البريطاني ظاهرة البطالة في بلاده مثلًا؟ ينبغي عليه أن يكون خبيرًا في الاقتصاد، وأن يفهم آلية عمل السوق الرأسمالية/ ما بعد الصناعية، وأن يكون لديه إلمام بمصطلحات متعددة، هذا صعب ومعقد، لكن لوم المهاجرين سهل ومباشر، وليس له تبعات ثقيلة، فأنت تتهم أضعف حلقات المجتمع بدل اتهام السياسيين والبنوك ورجال الأعمال مثلًا. يتم اختصار الموضوع بوجود مؤامرة لاحتلال السوق المحلي والتي يجب أن نوقفها الآن، فكان هذا مما ساهم في نجاح المنادين بالخروج من الاتحاد الأوروبي في استفتاء عام 2016. عالم اليوم معقد ومتشابك بدرجة غير مسبوقة، وهذا يمنح نظريات المؤامرة دفقة حياة، كونها تفسيرات سهلة تعطيك جوابًا موحدًا على العكس من التحليل الجاد والعميق.


لكن من يؤمن بنظريات المؤامرة؟

قد نظن أن المؤمنين بنظريات المؤامرة أو الميالين إليها هم أشخاص مصابين بالهوس، وأنهم أقلية شاذة حمقاء، لكن الحقيقة أن نظريات المؤامرة تخترق كل الطبقات وكل المستويات المعرفية حتى قمة الهرم العلمي والسياسي، وهو ما أثبتته عدة دراسات كما يثبته الواقع. مثلًا كان مفتي مصر السابق الشيخ علي جمعة ممن روجوا لكون شبكات الجيل الخامس السبب وراء جائحة كورونا، ورئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد كان ممن روجوا لنظريات مؤامرة بشأن اختفاء رحلة الخطوط الماليزية عام 2014، وكان الرئيس الأمريكي نيكسون مؤمنًا بوجود تآمر من موظفي يهود ضده. هذه الأمثلة غيض من فيض، فكرة المؤامرة ليست حكرًا على العوام أو الجهلة، ولذلك مكافحتها تتطلب جهدًا أوسع في تأسيس منهجيات تفكير أقوى وأوضح خصوصًا في زمن الانترنت.

ومع ذلك توجد سمات نفسية قد تزيد من قابليتنا لتبني نظريات المؤامرة، وهي تستحق أن نتفحصها. منها اشتداد الرغبة في الشعور بوجود انتظام وسط الفوضى، فعالم اليوم مليء بأحداث متشابكة متتالية قد تشعرنا بأننا لا نفهم ما يجري، فاقدون للسيطرة، وأن البشرية تركض ركض عشواء نحو المجهول. نظريات المؤامرة تربط مجموع الأحداث بعضها ببعض، وتعطي مظهرًا للانتظام والتسلسل يريح العقل البشري الذي ينفر بطبعه من الفوضى. صفة أخرى قد تؤثر وهي حب البروز والتميز عن الناس، الإيمان بنظرية مؤامرة يعطي شعورًا لصاحبها بأنه فهم الدنيا بينما باقي البشر يسيرون كقطيع من الأغنام، هو ينتمي لنخبة مستنيرة استطاعت أن ترى الحقيقة على عكس البقية، في هذا شعور بالنشوة والتميز والتعالي ولذة الإحساس بأنك محقق استقصائي بارع سبر أغوار الحياة وفهم أسرارها بينما كل من سواك جاهل.

صفة ثالثة تهمنا هنا بشكل خاص وهي انتشار ضعف الثقة في المصادر والمؤسسات التي تنقل لك المعلومة. حين تشك في المصدر أو نواياه فإنك تصبح أكثر قابلية للتصديق بنظريات المؤامرة، وهذه سمة شخصية، لكني أزعم أنها لم تزدهر من قبل قط كما ازدهرت في المجتمع الحديث.


مجتمع ضخم لا شخصي

نظريات المؤامرة ليست خاصة بالعصر الحديث لكن العصر الحديث له صفات أعطت لهذه النظريات أشكالًا وأنماطًا جديدة، ومن هذه الصفات تضخم المجتمع.

لقرون طويلة عاش أغلب البشر في الأرياف والقرى، وكان هناك بُعد مكاني وزماني ونفسي واضح بينهم وبين العواصم والمراكز الحضرية التي كانت عادة ذات سمعة سيئة كمراتع للقذارة والأوبئة “فقبل 1880 كانت المدن في كل مكان ثقوبًا سوداء سكانيًا، بالدرجة الأولى بسبب أمراض الأطفال المستوطنة والأوبئة المتكررة” كما قال المؤرخان جون ووليم ماكنيل في كتابيهما الشبكة الإنسانية، وحين أراد الجاحظ أن يدلل على حب الناس لبلادهم الأصلية قال “وترى الحضري يولد بأرض وباء وموتان وقلة خصب، فإذا وقع ببلاد أريف من بلاده، وجناب أخصب من جنابه، واستفاد غنى، حن إلى وطنه ومستقره”. فقط في العصور المتأخرة تحسنت المدن ونظافتها، وتحسنت الصحة العامة والطب والصرف الصحي، وتغير شكل الاقتصاد بما سمح لهجرات ريفية واسعة إلى المدن وتضخم المدن، وفي الحقيقة أغلب دول العالم لم يصل عدد سكان المدن فيها لنصف إجمالي السكان إلا في القرن العشرين. بالإضافة لذلك كان عدد السكان في الماضي منخفضًا بشكل جذري عنه اليوم، فقد استغرق البشر قرونًا كي يصلوا لنحو مليار نسمة ثم في قرن واحد – القرن العشرين – قفزوا إلى 6 مليار دفعة واحدة.

المجتمعات الحديثة حديثة فعلًا، وتتميز بطابعها اللاشخصي خصوصًا مع تنامي الطرق البيروقراطية والإدارية، فإذا كان الطبيعي لأجدادنا أن يعرفوا بشكل شخصي البقال والحداد والقصاب وأغلب جيرانهم ومرتادي دور العبادة معهم، فالطبيعي اليوم هو أننا لا نعرف أحدًا من هؤلاء بشكل شخصي أو حميم، المؤسسات الحديثة مصممة بحيث لا يهم من أنت ولا يهم من يكون الموظف الذي تتعامل معه، العملية البيروقراطية مصممة بشكل لاشخصي، وهو أمر له مميزات قطعًا لكن له سلبيات أيضًا، ومنها ازدياد شعور الاغتراب بين البشر وبفقدان السيطرة على حياتهم، وكأن الإدارة الأفضل والأكبر لها قابلية أن تؤدي لتدمير الولاء الطبيعي للقريب والمحلي والمألوف كما أشار أستاذ العلوم السياسية الأمريكي باتريك دينين. كلما زاد شعور الإنسان بفقدان السيطرة زادت حاجته لـ”السيطرة التعويضية” والتي تأتي أحيانًا في شكل تفكير مؤامرتي يعطيك القدرة على تحديد خصم واضح صلب في عالم سائل، فهذا يعطينا تفسيرًا متماسكًا لسوء الأحوال، وبالتالي احساسًا من الانضباط لتنظيم تصورنا عن عالم غير منضبط يصعب فهمه.

المجتمعات الضخمة اللاشخصية تعطي الانطباع القوي بوجود جهات ما تصدر الأوامر والنواهي وتخطط وتتحكم. هناك الكثير في حياتنا من أجهزة رسمية وشركات دواء وغذاء ووسائل إعلام ضخمة وشبكات اتصال وهلم جرًا، وهذا ينعكس بوضوح في لغتنا اليومية فتسمع من يقول “وها هم أخرجوا لنا كورونا” مثلًا، لكن من “هم”؟ لا أحد يعلم ولا أحد يسأل لأنه من المفهوم ضمنًا أن هناك جهات كبرى منفصلة عنك تدير أجزاء مهمة من حياتك. “والآن جعلوا كل الإعلام يتحدث عن كذا وكذا” أو “يريدوا أن يخاف الناس فيخضعوا لكذا وكذا” لكن عن من تتحدث بالضبط؟ ما أن تضع الأمر على المحك حتى تكتشف أنه لا يوجد أي سهولة في تحديد “هم” المزعومة، التي هي غالبًا خيالنا عن كيان أو كيانات كبرى لها خطط مسبقة واضحة محددة. كلما زادت اللاشخصية زاد احتمال عدم ثقتنا في هؤلاء الـ”هم” والشك في توجيهاتهم، ونحن نعيش في عالم معقد بشكل استثنائي، ويعتمد بشكل اضطراري على “هم” في كل خطوة، فأنت لا تستطيع قبل أن تركب القطار مثلًا أن تجري فحصًا تقنيًا وأمنيًا وأعمال صيانة عليه وعلى سكة الحديد، أنت تعتمد على وجود أشخاص خبراء قاموا بهذه الوظيفة، ونفس الشيء حين تتعامل مع البنك أو تركب الطائرة أو تتناول الدواء الذي وصفه الطبيب. هذا الاعتماد على كمية لا تحصى من خبراء لا نراهم سمة ضرورية من سمات العصر الحديث، وإلا لتوجب على كل واحد منا أن يكون عالمًا في مجالات لا حصر لها كي يعيش حياته اليومية، فقد يتطلب “مجرَّدُ فهمِ مُلصقٍ على إحدى الوجبات المُجمدة العادية في متجر البقالة معرفةً على نفس المستوى المعرفيِّ لطلاب الدراسات العليا في الكيمياء والهندسة وعلم الأحياء والتغذية. فاستقلالُنا الفكري يُنتزَع منا أكثرَ وأكثر، ونجد أنفسنا مجبرين على الإذعان للخبراء” كما يقول روب براذرتون في كتابه عن نظريات المؤامرة.

والإيمان المطلق بالـ”العلم” والخبراء الذي تحول لما يشبه التقديس والإيمان الغيبي – كما ناقشت في مقال سابق – صار منفرًا للكثيرين، وهذا بدوره ساهم في التمرد على العلم الحديث بحلوه ومره كردة فعل متطرفة على التطرف العلموي، والتمرد على العلم والمؤسسات العلمية يقع في لب الكثير من الفكر المؤامراتي اليوم.

وضعف الثقة في المؤسسات الكبرى ليس مجرد وهم بل تطرأ أحداث تدعمه هنا أو هناك، فتارة تكتشف أن الأدوية التي ألقيتها في القمامة لأنها منتهية الصلاحية لم تنته صلاحيتها أبدًا، وتارة تتفاجأ بأن الأكل الذي تتناوله كان يتضمن لحم الحصان دون أن يكون ذلك مكتوبًا على الملصق، أو حتى لحم خنزير رغم وجود ملصق “حلال” عليه، أو أن السيارة الصديقة للبيئة التي تركبها قد زودت بجهاز مصمم ليخدع الإختبار البيئي دون علمك. هذه الأخطاء ليست بالضرورة جزء من أي مؤامرة أو خطة مسبقة – وبعضها غير مقصود أصلًا – لكنها تزيد من إحساسنا بفقدان السيطرة والثقة وبوجود جهات كبرى تتحكم فينا وتخدعنا، وبالتالي يسهل علينا تفسير هذه الأحداث وغيرها على أنها جزء من مؤامرة.

أيضًا من صفات العالم الضخم أنه حافل بالأحداث الكبرى التي نعرف عنها فورًا وبشكل متواصل، والكثير من الناس يرفضوا تصديق أن الأحداث الكبرى لها تفسيرات بسيطة، أو أنها قد تكون نتيجة خطأ عفوي أو صدفة محضة، ومن هنا تأتي قابليتهم لتبني تفسير نظريات المؤامرة. ولذلك تنتعش نظريات المؤامرة في تفسير الأحداث الضخمة، وتنكمش في تفسير الأحداث الأصغر. مثلاً هناك عشرات وربما مئات من نظريات المؤامرة المرتبطة باغتيال الرئيس الأمريكي جون كيندي، لكن بالكاد توجد أي نظرية مؤامرة ذات وزن فيما يتعلق بمحاولة اغتيال الرئيس الأمريكي رونالد ريغان. أحد أهم الأسباب يكمن في أن ريغان نجا من المحاولة رغم إصابته. لو قتلته الإصابة لكانت نظريات المؤامرة ارتفعت بشكل كبير، لأنه حدث ضخم فسيأتي المنطق المؤامراتي على شاكلة: “هل فقدت عقلك لتصدق أنه بإمكان مجرد شخص مختل مهووس بالممثلة جودي فوستر أن يصل لرئيس أقوى دولة في العالم ويقتله في العاصمة في وضح النهار وسط حراسته؟!” وهكذا يصبح التفسير الحقيقي غير قابل للتصديق لمجرد أنه لا يرقى لمستوى الحدث.


الانفجار المعلوماتي وموت المعرفة 

من صفات العصر الحديث أيضًا وجود انفجار معلوماتي هائل يتم ضخه بسهولة من خلال الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، لكن مع ذلك نلحظ انخفاضًا في المعرفة بمعناها الحقيقي والعميق. نعيش عصر تشظي المعرفة ومصادرها مما أضعف قدرتنا على إدراك الحقيقة والبحث عنها إلى درجة وصف زماننا بأنه زمن “ما بعد الحقيقة”، وقد ناقشت في مقالات سابقة بعض من أهم أوجه المأزق المعرفي الذي يسببه الإنترنت اليوم ومنها الدخول في “حجرات الصدى” التي تغذيها الخوارزميات وتجعل الإنسان في دوامة من الأفكار المتشابهة التي تدعم بعضها بعضًا – وساهمت بشكل خاص في انتعاش نظرية المؤامرة – وهذا يزيد انعزال المرء، وبالتالي اغترابه الذي هو من عوامل انتعاش الفكر المؤمن بنظرية المؤامرة. وقد تطرق عالم السياسة حوزيف أوسينسكي المتخصص في نظريات المؤامرة و/أو آخرين غيره عن وجود علاقة بين تصديق نظريات المؤامرة وانخفاض احتمالية الانخراط في العمل الديموقراطي كالتصويت والترشح وحضور الفعاليات الحزبية أو التطوع فيها أو التبرع لها، وبالتالي ازدياد العزلة والاغتراب أكثر وانخفاض الثقة أكثر.

ومن أعراض الأزمة المعلوماتية أيضًا الهوس بالجماهيرية وبعدد المتابعين، وهو ما يحفز صناع المحتوى لزيادة تهويل فكرة المؤامرة كوسيلة لجذب المزيد من الجمهور، كذلك أعطى تفوقًا جارفًا للتعليقات السريعة المختصرة اللاذعة والـ memes على التحليل الرصين. قد تحتاج أن تكتب 10 صفحات لتناقش ظاهرة معقدة مثل التغير المناخي، لكن ترمب يكفيه تغريدة ساخرة ليشكك في الأزمة المناخية برمتها. ومن هذا الهوس بالجماهيرية تنبع ظاهرة “هيمنة التعليق” خصوصًا التعليق المليء بـ”الغضب الأخلاقي“، لدرجة أنه صار من المعتاد أن تقوم وسائل الإعلام الكبرى بتغطية تعليقات المغردين وما شابه. مثلًا حين وقعت مجزرة قرب بلدة الأتارب بسوريا عام 2017 ، اشتعلت فورًا تعليقات ضد النظامين السوري والروسي على وسائل التواصل الاجتماعي، وبعضها أخذ المئات أو الآلاف من التفاعلات المؤيدة. لاحقًا تبين بأن الغارة كانت أميركية وأن التعليقات التي تفاعل معها الآلاف كانت رد فعل عاطفي متسرع، ولكنه نجح – ولو بدون قصد – في محو الحقيقية وتجاوزها ولم يعد مهمًا اليوم أن أمريكا هي التي قصفت أم لا. إذا أضفنا هذا إلى حملات التضليل المتعمدة والممنهجة سنرى إلى أي درجة يتم اليوم فعلًا تذويب معنى “الحقيقة”.

أخيرًا أتاح الإنترنت أن يكون لكل أحد منبر وقدرة على التعليق الفوري، وهو شبيه بأن يتحول كل شخص لوكالة أنباء إن أراد، وهذا يعني وجود سيل لا يتوقف من المعلومات الصحيحة والمغلوطة التي يمكن أن يتم تداولها بشكل مؤدلج أو موجه. يقول براذرتون عن هذه الظاهرة أنه في خلال دقائق من وقوع حدث ما “يمكن لأي شخص لديه اتصالٌ بشبكة الإنترنت أن يبدأ في الإدلاء بدلوِه، كيف أن ما جرى دليلٌ على نوعٍ ما من المؤامرة أو التستُّر”. وكما أشار عالم النفس مايك وود، فإن شبكة الإنترنت والأخبار التي لا تنقطع على مدار الساعة تُوفِّران مادةً خِصبة تستغلها نظريات المؤامرة إذ يقول: «نظرًا إلى هذا الكمِّ الهائل، تزداد احتمالاتُ وجود تناقضات وشذوذات يمكن اقتناصها واستغلالها كأدلةٍ ضدَّ الرواية السائدة للحدث.»”.

هناك وفرة كبيرة في مصادر المعلومة فلذلك حتى وسائل الإعلام المهنية ستقع لا محالة في خطأ ما أحيانًا، وهذا سيغذي نظريات المؤامرة دومًا، وفي نفس الوقت يقوم المعلقون الفوريون المؤدلجون بإنتاج نظريات جديدة على كل حدث بوتيرة تصعب مواجهتها والتفرغ لدحضها. حتى حادثة الطفل المغربي ريان تحولت لدى المؤامراتيين فورًا لمسرحية هدفها احتكار الماء وأن هناك خطة للقيام بعدة مسرحيات لأطفال مخطوفين وغارقين “لتشريع قوانين حماية الطفولة التي تخول الدجال الدخول إلى بيوتكم”، وحتى خبر عادي جدًا مثل وفاة أحد مكتشفي فيروس نقص المناعة المكتسب يصبح مؤامرة محتملة تتضمن قتله والتخلص منه – رغم أن الرجل مات في ظروف اعتيادية بعد أن شارف على التسعين – وفور وقوع حادثة إطلاق نار جماعية في أمريكا تتصاعد المزاعم بأنها مسرحية هدفها التمهيد لنزع الأسلحة من المواطنين وإلغاء التعديل الدستوري الثاني، وهكذا.


روحانية العصر الجديد

تطرقت في مقال مطول سابق عن العطش الروحي العالمي. نعيش في عالم معلمن “عقلاني” وفي مواجهة هذا الفراغ الروحي يلجأ الإنسان لأي روحانية تعطيه جرعة سكينة، وهذا من أسباب انتعاش اليوغا والتأمل والنية و”علم” الطاقة وغيرها، الإنسان ليس مجرد حيوان من الثدييات بل هو كائن له بُعد روحاني شاء أم أبى، ولذلك يسعى لمعنى إيماني أو غيبي طوال الوقت. 

من هذا العطش ترعرعت الروحانية الجديدة ومعتقدات العصر الجديد التي تنتشر في أمريكا مثلًا، بل وتخترق ما يقرب من نصف الأمريكان غير المتدينين غير الروحانيين. حين ذهب براذرتون إلى اجتماعات مؤامراتية اكتشف شيئًا لم يتوقعه “الشخص الذي يُصدِّق نظريات المؤامرة يميل إلى تصديق روحانية العصر الجديد التي تشمل كلَّ الأفكار الميتافيزيقية مثل مفهوم كارما الهندوسي وتناسخ الأرواح والإسقاط النَّجْمي والاستشفاء بالطاقة، والفكرة القائلة بأن الكون بأكمله نوعٌ ما من كلٍّ حيٍّ غيرِ مُجزَّأ”. وقد لاحظت سينثيا ميلير إدريس المتخصصة في دراسات الإستقطاب والتطرف أن الحشود التي اقتحمت الكونغرس في يناير 2021 لم يكونوا فقط أنصار ترمب المعتادين كالعنصريين البيض، بل ضموا أيضاً المعارضون للقاحات (من بينهم طبيبة) والتحرريون المعارضون لفرض لبس الكمامات وأنصار الحق في حمل السلاح الومؤمنون بمدأ “التسريع” القائم على العمل لتسريع انهيار النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي العام. بالإضافة لذلك فقد استعمل المقتحمون رموزاً دينية ترمز لروحانيات العصر الجديد وللوثنيات الجديدة، ووجدت علاقات بين جمهور QAnon وبين روحانيات العصر الجديد وغير ذلك من المؤشرات المثيرة حقاً التي تعطينا نظرة أكثر نفاذاً لظاهرة تم اختصارها في عنصر واحد وهو العنصرية البيضاء، وهو عنصر محوري بلا شك لكنه ليس الوحيد، فهناك علاقة بين نظريات المؤامرة من ناحية وبين تيارات “العافية” ومراكز اليوغا والروحانيات الجديدة من ناحية أخرى وهي علاقة بدأ توثيقها أكاديمياً منذ أكثر من عقد. ثمة ترابط بين الفراغ الإيماني وازدياد الإيمان بالخرافات وهي ظاهرة تستحق أن تدرس. 

خاتمة

انتعاش نظريات المؤامرة تجلي لأزمة معرفية وفلسفية أعمق، وهي أزمة تتجه للتفاقم وإذا وصلت لذروتها سيتم التشكيك في كل شيء، و سيضطر البشر لابتكار أُطر معرفية و مرجعيات أخلاقية جديدة لمواجهة السيل وستتغير فلسفة حرية الرأي. أزعم أننا أولى من غيرنا في دراسة هذه الظواهر والتأصيل لنماذج معرفية متينة بديلة تقينا السيل قبل أن يضرب، لعلنا ننقذ المجتمع، فإن لم يكن المجتمع، فعلى الأقل أن تكون حصنًا لنفسك “أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ”. 


Photo by Mikhail Nilov from Pexels

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

10 + 16 =

تعليقان

  1. عمار المفتيsays:

    مقالٌ جيد متميِّز لأحمد صبري…عرَّجَ فيه واستقرأ مناحي وأسباباً شتى ساهمت (ولا تزال) في بلورة والدفع بنظريات المؤامرة وملامِحها.
    الموضوع قد يحتاج لمُقارَبة لاحقة ترسمُ مَحاور للتصدي لتلك الظاهرة المُعقَّدة المُركَّبة: في الإعلام، في الثقافة والبناء العقلي…السؤال هوَ كيف ذلك على المستوى المجتمعي؟

Join our mailing list

Be the first to know about our new products and promotions and enjoy the enriching weekly newsletters.