هل العتاب هدية الأحباب؟

post Image>

ورد في شرح دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: «لَكَ العُتبَى حتَّى تَرضَى» أي أَستَرضِيكَ حتَّى تَرضَى؛ يُقالُ: اِستَعتَبْتُهُ فَأعتَبَنِي، أي استَرضَيْتُهُ فَأَرضَانِي. وفي اللُّغَةِ: يَقولُ الرَّجُلُ للرَّجُلِ: لَكَ العُتبَى، أي لَكَ الرِّضا.

ما هو العتاب؟

العتاب سلوك ينفر منه أغلب الناس ولا يفضّلون الحديث عنه، ويتراوح موقفهم تجاهه؛ فمنهم من يُفرط في استخدامه فينفر منه الناس، ومنهم من يمتنع عنه تماماً فلا يعبّر عما في نفسه، ومنهم من يتوسط بين ذلك. والعتاب هو أن تجد في نفسك شيئاً على شخصٍ آخر صدر منه ما لم تتوقعه، فتكلمه فيه، ويختلف العتاب عن اللوم أن لغته مقرونة بالعطف واللين لأنه للمحبين، بينما اللوم مقرون بالشدة والتأنيب. بشكل عام، هناك موقف سلبي تجاه العتاب، وكأنه فعل مذموم ينبغي تجبنه دائمًا، في حين أن للعتاب آداباً وضوابطاً إن اتُبعت كان له منافع مختلفة، مثله مثل المصارحة، والاعتذار، والنصيحة، وغيرها من الممارسات التي تتطلب من المرسل تلطفاً وإنصافًا، ومن المستقبل انفتاحًا وتواضعًا.
لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ من الأمثلة التي ورد فيها العتاب في السنة النبوية؛ عندما وجد الأنصار في أنفسهم على رسول الله ﷺ بعد غزوة حُنين، حين قسّم العطايا على قبائل العرب، ولم يعطهم شيئًا، فقال له سعد بن عبادة رضي الله عنه: «إِنَّ هَذَا الْحَيَّ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْكَ فِي أَنْفُسِهِمْ» فعبّر عن مشاعره ومشاعر قومه للنبي ﷺ، ثم سأله النبي ﷺ عن موقفه: «فأين أنتَ من ذلك يا سَعدُ؟ قال: يا رسولَ اللهِ، ما أنا إلَّا امرُؤٌ من قَومي»، فجمع النبي ﷺ الأنصار، وتحدث إليهم، وامتدح مكانتهم، حتى طابت نفوسهم ورضوا:

« أوَجَدتُم في أنْفُسِكم يا مَعشَرَ الأنْصارِ، في لُعاعةٍ من الدُّنيا، تَألَّفتُ بها قَومًا لِيُسلِموا، ووَكَلتُكم إلى إسْلامِكم، أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي رِحَالِكُمْ؟ فوالَّذي نَفْسُ مُحمَّدٍ بيَدِه، لولا الهِجْرةُ لَكُنتُ امرَأً من الأنْصارِ»


والدروس كثيرة من هذا الموقف المؤثر؛ فلم يكن الرسول ﷺ ملزمًا بالحديث إليهم وتبرير موقفه لهم، ولكنه هذبهم بعتابه الرقيق حتى لم يبق في أنفسهم شيءٌ عليه، ولعل من هذه الدروس ألا نحوج الآخرين لعتابنا، وأن نبادر بتوضيح موقفنا، وتوضيح الصورة الكاملة للشخص الذي لا يرى إلا جزءًا منها، حتى ننعم بعلاقات أفضل أدوم.

لماذا نعاتب؟

استبقاك من عاتبك وزهد فيك من استهان بسيئاتك ابن حزم العتاب ليس للجميع بالتأكيد، فكما يقال العتاب على قدر المحبة، أي أنك لا تعاتب أي أحد، بل من يهمك شخصه وعلاقتك به، وترجو أن يفهم عتابك ويُرضيك، فالعتاب هدية الأحباب، لأن الأعداء لا يعتبون على بعضهم. بالتالي نحن نعاتب كي تستمر علاقاتنا وتصبح أفضل، وكي تصفو نفوسنا من مشاعر اللوم والغضب، فكما يقال العتاب صابون القلوب، أي الذي ينظّفها، ويزيل رواسب العلاقات، فالعلاقات السليمة تقوى بعد العتاب وتصبح أفضل وأقرب، فعندما يعاتبك أحدهم فهذا يدل على مكانتك عنده، وعن رغبته أن لا يؤثر شيء على علاقتكما، إلا أن الأمر كله يعتمد على الأسلوب كما سنوضح.


إذا ذهب العتاب فليس ودٌّ ويبقى الودّ ما بقي العتاب
ماذا لو امتنعنا عن العتاب؟ قد نشعر بشعور جيد تجاه أنفسنا أننا لم نزعج أحداً بعتابنا، لكن قد تتراكم في قلوبنا المواقف حتى تؤثر على علاقاتنا وتنهيها، في حين أن شيئًا من البوح اللطيف كان يمكن أن يجدد تلك العلاقات، فالعتاب في حقيقته هو نوع من طلب الودّ من الآخرين، وليس إبعادًا لهم.

إذًا كيف نعاتب؟

كثرة العتاب تفرق الأحباب الأصل في التعامل مع الناس هو التغافل، وليس المحاسبة واللوم على كل صغيرة وكبيرة، فالتغافل مقدم على العتاب، لذا علينا تجنب استعماله إلا في الأمور التي حاولنا التغافل عنها ولم نستطع، ولها تأثير على علاقاتنا وصفاء نفوسنا على المدى البعيد.
لعل له عذرًا وأنت تلومُ
أما آداب المعاتبة فتشمل التلطف في اختيار التوقيت، وانتقاء الألفاظ العذبة الرقيقة، تخفيف الملامة، التماس العذر له وأنت تعاتبه، عدم الإصرار على اعتذار الطرف الآخر لك، وقبول عذره واعتذاره إن فعل، ومن ثم طي الصفحة وعدم فتحها معه مجددًا، وأن تقبل معاتبة الطرف الآخر لك بالمثل. قد يستعمل بعض الناس العتاب بشكل غير صحيح، أو لأغراض شخصية لا تراعي مصلحة الآخر ولا مصلحة العلاقة، من أمثلة ذلك محاولة ابتزاز مشاعر الآخرين، ولوي ذراعهم باستخدام اللوم المتكرر، أو تذكيرهم بأخطائهم السابقة، أو استفزاز عاطفتهم بتذكيرهم بمكانتهم وأهمية العلاقة بهم، وذلك من أجل إرضاخهم لرغباتهم الشخصية لا لإنعاش العلاقة ولا تحسينها، وكل هذه التصرفات لا تمثّل العتاب بل تخرج عنه، لأنها تضر العلاقات ولا تنفعها،وهنا لابد أن نتذكر أن أن استعمال البعض للعتاب بشكل خاطئ، لا يعني بالضرورة الحكم عليه بالسوء أو عدم المنفعة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اثنان × 4 =

لا توجد تعليقات

Join our mailing list

Be the first to know about our new products and promotions and enjoy the enriching weekly newsletters.