لماذا نحتاج للهدوء أكثر من أي وقت مضى؟

post Image>

تحدّثت في مقالة سابقة عن أن أكثر ما يفتقده الإنسان في العصر الحديث لينمو في حياته الشخصية والعملية هو إيجاد وقت يومي منتظم لا يقوم فيه بفعل أي شيء سوى الجلوس والتأمل (أو المشي والتفكير).

[في الولايات المتحدة] من عام ٢٠١١ حتى عام ٢٠١٥م، أظهر مقياس إنتاجية العمل الرسمي للحكومة ٠.٤٪ فقط نموًا سنوي في الإنتاج لكل ساعة عمل. هذا هو أدنى مستوى لمدة خمس سنوات منذ الفترة ما بين ١٩٧٧ إلى ١٩٨٠م، وأقل بكثير من متوسط ٢.٣٪ منذ الخمسينيات.

نقف أمام انخفاض واضح لمعدل نمو وإنتاجية عامة للأفراد في الوقت الذي يفترض به أن نكون عكس ذلك، مع وجود الانترنت وسهولة التواصل وإمكانية إنجاز معظم الأعمال المكتبية من المنزل أو من أي مكان في العالم. إنجاز الأعمال (كمفهوم) لم يكن تاريخيًا أسهل مما هو عليه اليوم، وإمكانية الجلوس مع أحباءنا والقيام بهوايات نحبها والتعرف على أنفسنا أكثر والابتعاد عن التوتر من ناحية نظرية يفترض به أن يكون جزءً من نمط حياتنا اليومي، إلا أن الواقع ليس كذلك. ليس مهنيًا فقط، بل حتى أن جزءً كبيرًا من الواجبات الأسرية في التبضّع لا تتجاوز في وقتها وقدرة إنجازها دقائق قليلة على أحد مواقع بيع الخضروات أو السوبرماركت أو أمازون أو نون كي يصل إلينا ما نشتريه في وقتٍ قياسي وهذا يجعل العصر الحالي أسهل وبالتالي يفترض أن يوفر لنا وقت أكثر للتأمُل والهدوء. 

يعمل كاتب هذه السطور في شركة «خدمات لوجستية» ولم يقم ولو لمرة في حياته وتقريبًا مع أيٍ من زملائه بلمس أو مشاهدة شُحنة أو حاوية واحدة كانت قد عُبئت أو تركت الميناء متجهة إلى ميناء دولة أخرى أمام عينه، هذه الشركة تخدم سنويًا أكثر من خمسين عميلًا مختلفًا مع آلاف الحاويات المشحونة بأعلى كفاءة. كل الأعمال تُنجز من خلال التواصل والتنسيق الالكتروني، من خلال المكاتب أو المنازل، دون تدخلات يدوية مباشرة، سوى عُمال محدودين في الميناء أو في المطارات.

إنسان واحد طرق عمل متعددة:

«في عام ١٨٧٠م (في عهد الثورة الصناعية)، كانت ٤٦٪ من الوظائف في الزراعة، و٣٥٪ في الحرف أو التصنيع، وفقًا للخبير الاقتصادي روبرت جوردون. عدد قليل من المهن التي اعتمدت على عقل العامل. لا يجب أن يُفكر العامل. يجب أن يجتهد دون انقطاع في يومه، عمله هو النتيجة الظاهرة والملموسة.» يعلّق الاقتصادي مورجان هوسل في مقالته  «عمل كسول، عمل جيد» حول انتقال الأهمية القصوى من الجهود البدنية إلى العقلية في عالم التوظيف اليوم، في وقتٍ يفترض بنا أن نكون أقل عرضة للضعوطات.

«كان «جون دي. روكفيلر» أنجح رجل أعمال في كل العصور (بلغة الأرقام). كان أيضًا منعزلاً، يقضي معظم وقته بمفرده. نادرًا ما يتكلم، ويتعذر الوصول إليه عن عمد ويلتزم الصمت عندما تلفت انتباهه، سياسة الباب المفتوح ليست في قاموسه. قال أحد عمال المصفاة الذي كان يسمع من حين لآخر روكفلر عندما يتحدث ذات مرة: «إنه يسمح للجميع بالتكلُّم، بينما يجلس في الخلف ولا يقول أي شيء. لكن يبدو أنه يتذكر كل شيء، وعندما يبدأ بالحديث يضع كل شيء في مكانه الصحيح».

لم تكن مهمة روكفلر حفر الآبار أو تحميل القطارات أو نقل البراميل (وهي صُلب أعمال شركاته). كانت مهمته اتخاذ قرارات جيدة.  واتخاذ القرارات يتطلب، أكثر من أي شيء آخر، وقتًا هادئًا وحده مع رأسه للتفكير في مشكلة ما. رأسه كان المكان الذي أمضى فيه معظم وقته وطاقته.» يُضيف هوسل، «كان هذا أمرًا مميزًا في عصره. تطلبت جميع الوظائف تقريبًا خلال وقت روكفلر القيام بالأشياء بالأيدي».

انقلبت الآية اليوم؛ أكثر من نصف الوظائف في الاقتصاديات الحديثة لا تتطلب تدخلًا يدويًا.

الإلهاء:

غزارة الإلهاء وتنوع قنوات الترفيه ربما يكون هو ما استبدل أكثر ما يفكر فيه الإنسان المعاصر الطموح: المزيد من الإنتاجية. في حين أن الكفاءة وإيجاد الحلول الحياتية والمهنية لا تتطلب أحيانًا سوى التعامل بمزيدٍ من الهدوء في كل ما نقوم به. وتاج الهدوء هو التأمل.

لا يستطيع موظف اليوم أن يستأذن مديره لكي يقوم بنزهة لمدة ساعتين في أوقات العمل كي يفكر في خطة وتنفيذ أكثر كفاءة لمهامه العملية، ولا يمكن ضمان استمرارية الموظف على كرسيه إن رفض بشكلٍ متواصل عدم حضور الاجتماعات المطولة سيئة الذِكر، بل العكس.. مع قرب اختفاء آثار الجائحة، أصبحنا أكثر قُربًا من أجهزتنا الذكية التي يمكن من خلالها أن يتواصل معنا زملاءنا على مدار الساعة، معتقدين أن العمل من المنزل ظاهريًا أقل ضغطًا علينا.

«أستغرق وقتًا في المشي لمسافات طويلة على الشاطئ حتى أتمكن من الاستماع إلى ما يجري داخل رأسي، إذا كان عملي لا يسير على ما يرام، فأنا أستلقي في منتصف يوم العمل وأحدق في السقف بينما أستمع وأتخيل ما يدور في مخيلتي». لم تكن هذه إجابة إنسان كسول في عمله عندما سؤل عن أوقاته التي يقضيها لحل مشاكله، إجابة آينشتاين تُفسِّر أسباب خروج إنجازاته العملية، وقد تكون أيضًا إجابة على سؤال أكاديمي تقليدي وهو «لماذا لا يُخرِج معظم الأكاديميين في العالم باكتشافات أو استنتاجات مؤثرة؟» وهل يصح أن نفترض أن الإجابة قد تكون «انشغال معظمهم بالتدريس وليس الجلوس ساعات أطول للتفكير؟».

أراقب عن كثب حياة الكثيرين من رجال الأعمال في حياتي المهنية، ونادرًا ما يُلاحظ انتقال الكثير منهم لمستويات جديدة في أعمالهم وتوسّعها، بسبب أنهم بالفعل مشغولين، مشغولين بالأعمال التي تُشغِل وقتهم وأيديهم وإيميلاتهم أكثر من عقولهم ولحظات الهدوء التي يفترض أن تتحيز ولو قليلًا للتفكير.

حرب اليوم الداخلية لدى الإنسان مع نفسه لكي ينمو هي ليست بكل تأكيد في توفير المزيد من الوقت. بل في تخفيف الإلهاء، والبحث عن المزيد من دقائق التفكير بدلًا من الانصياع للترفيه، التخفيف من التواصل الاجتماعي وزيادة التواصل الفعّال.

لكي ننمو، نحتاج أن نكون أكثر من أي وقتٍ مضى برفقة الكُتب والخلوة والأفكار والكثير من الأعمال العميقة بدلًا من إتاحة النفس لتكون عرضة للعمل في أي وقت وتحت أي سقف.

لكي ننمو نحتاج لهدوء أكثر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

واحد × 1 =

3 تعليقات

  1. Majedasays:

    والله هلكنا اجتماعات مطوّلة سيئة الذكر يا أحمد! ألف شكرًا على المقال الجميل… الهاديء.

  2. Eishah Abdullahsays:

    صدقت والله الإلهاء والمشتتات كثيرة جدًا في هذا الزمان وما ينفك الشخص منها، شخصيًا احذف مواقع التواصل واحملها من فترة لفترة عشان أوفر وقت للإنجاز وممارسة هواياتي وقضاء الوقت مع نفسي وتحقيق أهداف كثيرة وفعلًا الحمدلله بأنجز، ووحدة من أمنياتي احذف الواتس اب بس مع الاسف احسه اهم تطبيق بالدراسة، بالعمل، الاهل والاصدقاء والله المستعان .

Join our mailing list

Be the first to know about our new products and promotions and enjoy the enriching weekly newsletters.