Join our mailing list
Be the first to know about our new products and promotions and enjoy the enriching weekly newsletters.
Last Update يونيو 11, 2023
تحدثنا في الجزء الأول من هذه السلسلة عن الأسباب التي تدفعنا للقول بأن تحديات عصر الإنترنت مختلفة بشكل جوهري عن تحديات إعلام ما قبل الإنترنت. في هذا الجزء الثاني نناقش بتعمق جزئية أخرى من نفس الظاهرة وتوصلنا إلى نفس السؤال: كيف أثر الإنترنت على قدراتنا الفكرية والتحليلية، وهل يمكن إصلاح الإنترنت وآلته المعطوبة؟
نجاح المنصات الرقمية قائم على زيادة الجمهور وجذبهم للبقاء أطول فترة ممكنة على المنصة. هذه الوصفة البسيطة أدت لطفرة في المحتوى السطحي والفضائحي والإغرائي والغرائبي لأنه أكثر جذبًا بكثير من المحتوى الرصين والمعمق، كما أدت لطفرة في صناعة وشراء المتابعين الوهميين. كل ترس يؤثر في باقي تروس الآلة: هذا النمط يؤثر على سلوكنا وتفكيرنا على المستوى الفردي، ثم على آليات عمل المنصات نفسها وصانعي المحتوى فيها مما يعود ويؤثر على تفكيرنا مرة أخرى.
فمثلًا حين نعتاد المحتوى السريع السطحي ستزيد صعوبة التفكير النقدي والتحليلي والرجوع للكتب والأبحاث والمراجع. وأيضاً سنلجأ لا شعوريًا لاستثارة المشاعر وتضخيم الأمور في صفحاتنا إذا صرنا مسكونين بعدد المتابعين والاعجابات والتعليقات والمشاهدات. كذلك مع تعودنا على كثرة المحتوى الترفيهي السريع المتتالي اللانهائي والحصول على جرعة منه كل بضع دقائق ستنخفض قدرتنا على التركيز المتواصل في مهام فكرية وعملية مطولة.
اليوم صار الجمهور المعتاد على الالتهام السريع للمواد يجد أن فيديو من 5 دقائق هو فيديو طويل! وبالتي بات الاختصار – حتى المُخل – سمة طبيعية واضطرت وسائل إعلام عريقة لاعتماده في موادها الإلكترونية وغير الإلكترونية كي لا تفقد جمهورها.
يقضي المشاهد ساعات أمام محتوى ترفيهي تلو محتوى ترفيهي وتهيمن سلوكيات الإنترنت على استهلاكنا الإعلامي، فتقوم وسائل الإعلام بتخفيض جودة ونوعية طرحها كي تنافس، وهكذا تتعمق المشكلة وتعتاد عقولنا على التفكير اللحظي غير المعمق حتى في المواضيع المعقدة. سلوكنا الالكتروني الحديث بات يهيمن على يومنا كله ولم يعد مسألة هامشية بلا عواقب. مثلاً هل قيام المستهلك بسحب الشاشة للأسفل للتحديث pull-to-refresh مئات المرات يوميًا أصبح عادة إدمانية مرتبطة بأن “الجائزة” التي سيحصل عليها مختلفة وغير متوقعة كل مرة فتخلق في العقل نفس النمط الذي تخلقه المقامرة.
هذه الظواهر تقع تحت مصطلح “اقتصاد الانتباه” أو Attention economy وهو نموذج عمل هذه المنصات: كلما زاد بقاؤك على المنصة كلما زاد ربحهم وبالتالي فإن إغراءك بالمزيد من المتع المحتملة والوعود والتوقعات والمُثيرات والتنبيهات والتلاعب المتعمد بإفراز الدوبامين ضروري ليتربحوا منك. المعركة هي على وقتك وانتباهك والهدف هو الحفاظ على تواجدك أطول فترة ممكنة فهُم لا يُريدون أن يأخذ أحد من وقتك سواهم. في تعليق له رمزية قوية قال الرئيس التنفيذي لنتفليكس أن أكبر منافس لمنصته هو النوم.
ساعدهم في تحقيق ذلك ابتكار تقنيات صغيرة مثل سحب الشاشة للتحديث وتشغيل الفيديو التالي دون اختيارك والاستمرار في ترشيح واقتراح مواد جديدة لك واعطائك تنبيهات لأشياء غير مهمة بعض الأحيان وجعل المحتوى لا نهائي (مهما بقيت تتصفح تويتر أو انستغرام مثلًا لن تصل لنهاية ما) واعتماد الخوارزميات التي تتحكم بعدد الجمهور الذي سيرى المحتوى والتحكم كذلك في توزيع أوقات ظهور الإشعارات والاعجابات على فترات متفرقة وبكميات متنوعة كي يتم التلاعب بشكل دائم بمستوى توقعاتك وبالتالي تعزيز إدمانك. الكثير من هذه التقنيات متعمد وتم إنشاؤه تحديدًا لتحفيز السلوك الإدماني.
ولأن تسطيح المحتوى صار سمة شائعة بتنا نرى آثارها في عرقلة مهاراتنا العقلية. اذهب ليوتيوب وقارن عدد المشاهدات لفيديو يقدم مادة معرفية بعدد المشاهدات لفيديو مقالب أو”تجارب اجتماعية” أو مواضيع أخرى سطحية وترفيهية واغرائية تستهدف المشاعر والغرائز. الفرق شاسع، ولأن يوتيوب يعتمد معادلة (المزيد من المشاهدات والاشتراكات = المزيد من المال) صار اللهاث خلف الجمهور هو المحرك الذي يتحكم في إختيار المواضيع بل وحتى في كيفية معالجتها. فقد يختار أحدهم موضوعًا مهمًا ولكن يعالجه بطرق التهويل والإثارة العاطفية الرخيصة والتسطيح المبالغ فيه كي يزيد عدد المشاهدات، وقد يختار صورة له وهو يصرخ أو يبكي مثلًا (استثارة عاطفية) أو صورة فيها تلميح إغرائي (استثارة غرائزية) وهكذا.
واليوم تضطر وسائل إعلامية لخفض جودتها وميزانيتها في منافسة صعبة، والصحافة الاستقصائية التي تُعد هي لُب العمل الصحفي الحقيقي والصحي لأي مجتمع من أكثر المتضررين لكونها من أكثر الأقسام كلفة (بما فيها تكلفة المصاريف القانونية، فالقصص الاستقصائية عادة ما تستجلب الدعاوى القانونية وراءها) بالإضافة لتحديات أخرى طرحها صحفيون كبار كرئيس تحرير الغارديان السابق وغيره. الصحافة الاستقصائية تتطلب أيضًا الكثير من الوقت عكس صحافة التغطية الفورية، وهذا الإدمان على الاستعجال أدى لتسطيح فهمنا للأحداث.
لكن هناك جانب آخر يعرقل تفكيرنا: ظاهرة هيمنة التعليق على الحدث، خصوصًا تعليق المشاهير، فصار الخبر الرئيسي هو كيف تفاعل المغردون مع الخبر وكيف علق المعلقون والمؤثرون بينما اختفى الخبر نفسه. هل يعرقل هذا طريقة تفكيرنا وطريقة فهمنا للواقع؟ في بعض الحالات نعم، فالتعليقات المؤدلجة على الخبر صارت تفوق أهمية الخبر بل وأهم من الحقيقة أصلًا.
مثال على ذلك: في مارس 2017 وقعت مجزرة قرب الأتارب بسوريا فاشتعلت تعليقات ضد النظامين السوري والروسي على وسائل التواصل الاجتماعي. قال أحدهم أن الغارة لو استهدفت كنيسة لقامت أوروبا بمحو الأسد انتقامًا منه، وأكد آخر أن الغارة نفذتها إما طائرات بشار أو بوتين وكرر آخرون نفس السردية.
ما المشكلة في ذلك؟ المشكلة أنه تبين لاحقًا بأن الغارة كانت أميركية. التعليقات التي تفاعل معها الآلاف كانت رد فعل عاطفي ومتسرع ولكنه نجح – ولو بدون قصد – في محو الحقيقية وتجاوزها ولم يعد مهمًا اليوم أن أمريكا هي التي قصفت أم لا.
مثال آخر: توفي مؤخرًا أول رجل تم تطعيمه بلقاح فايزر المضاد لكورونا. انتشرت بعدها تعليقات إلكترونية مختصرة مضادة للتلقيح من نوع “لقد لقحوا كبار السن كي يقتلوهم ويقللوا عدد السكان” وما شابه. كلها تعليقات مختصرة ولاذعة وتبدو وكأنها حجة مفحمة، بينما في الحقيقة توفي الرجل بجلطة عادية بسبب تدهور صحته من فترة طويلة ولا علاقة لوفاته باللقاح، لكن بالنسبة للكثيرين انتصر التعليق المختصر العاطفي ذو النبرة المؤامراتية على الحقيقة المعقدة ذات التفاصيل، وغني عن القول أن هذا التأثير يتضاعف عند أولئك الذين كانوا مؤدلجين من قبل بآراء تُعارض اللقاح.
مثال ثالث نراه في أنصار ترمب وهم نموذج لشريحة عالية الأدلجة ومحصنة من الآراء الأخرى التي تعوّدوا على وصمها جميعًا بالأخبار الكاذبة (وهو ما يدخلهم في حجرات صدى مغلقة كالتي تكلمنا عنها في المقال الأول من هذه السلسلة)، وترمب وفريقه تمرسوا في إطلاق التصريحات المختصرة اللاذعة ذات التأثير العاطفي القوي. مثلًا غرد ترمب عن انخفاض درجة الحرارة في الوسط الغربي للولايات المتحدة بقوله “ماذا جرى بحق الجحيم للاحتباس الحراري؟ أرجوك عد سريعًا، نحتاجك!”. التغريدة المختصرة تشكك بالتغير المناخي بحجة سطحية لا معنى لها تقول أن برودة الجو تتناقض مع “الاحترار”. حققت التغريدة انتشارًا واسعًا ونالت إعجاب الآلاف من أنصار الرئيس المشككين من قبل في وجود التغير المناخي. وهكذا قام تعليق سريع ساخر غير منطقي غير علمي بالانتصار على أبحاث علمية رصينة وبيانات إحصائية دقيقة.
نفس الشيء حصل حين أدان البابا بناء الأسوار – في إشارة لجدار ترمب على حدود المكسيك – فعلق مناصرو ترمب (مثل مستشاره دان سكافينو والمتطرف بن شابيرو) بأن البابا يدين جدار ترمب بينما الفاتيكان محاط بالكامل بالأسوار. المقارنة لا معنى لها للإختلاف الجذري بين الجدران الحدودية الحديثة وأسوار المدن التاريخية، لكن من يكترث؟ في وسط جمهور مؤدلج انتصرت هذه التعليقات كأنها حجج دامغة فضحت الخصوم المنافقين. لاحقًا قام ترمب شخصيًا بترديد نفس الحجة الواهية.
تكررت الظاهرة في انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة وفي حادثة الطالب ساندمان وفي أمثلة عديدة من العالم العربي أيضًا. تعليق مختصر أو تغريدة صغيرة أو ميم مُضلل واحد ينتصر على مئات الخبراء والأبحاث العلمية. إنه عصر “ما بعد الحقيقة” كما أسماه البعض.
و”هيمنة التعليق” ليست ظاهرة منفصلة، فنحن نعيش ثقافة كاملة هي ثقافة التعليق المختصر (كالتغريدة أو صور الميم meem) خصوصًا التعليق اللاذع الذي يجوب الآفاق ويحصد الآلاف من الإعجابات و إعادات النشر، وكلما زادت شعبية التعليق المختصر زادت السعادة التي يشعر بها المعلق لأن منظومة المكافآت الرقمية ستكافئه ولن تكترث بجودة ما قدمه بل بمدى شعبيته. منظومة المكافآت هي “تلعيب” لكل شيء، بمعنى جعلك في لعبة مستمرة معيار النجاح فيها هو تحقيق أرقام أعلى. يصبح صانع المحتوى – فرداً كان أم جهة – مهووسًا بمراقبة عدد الاعجابات والمتابعات، إذا وصل لرقم مميز (مثل ألف أو مليون متابع مثلاً) فإنه يحتفل كأنه حقق نجاحًا في مرحلة جديدة من اللعبة، ويقوم بتثبيت أكثر تغريدة له انتشرت كأنها ميدالية لأعلى مرحلة وصلها في اللعبة، وإذا شارك بشكل ملفت في صفحة ما على فيسبوك ستمنحه المنصة “شارة” تظهر للجميع في تعليقاته على هذه الصفحة، والتطبيقات الخاصة بمشاركة أماكن تواجدك قد تمنحك لقب “عمدة” مكان ما إذا ترددت عليه كثيرا.
والتعليق المختصر يعني زيادة احتمالية التسطيح لمحدودية المساحة المتاحة للطرح المركب، وفي نفس الوقت منظومة المكافآت ستشجع على إضافة لمسات من المبالغة أو التهويل أو السخرية أو الغضب المصطنع لتحقيق الإنتشار. يزيد التفاعل حين يتضمن المحتوى شيئًا من الإختلاف والغضب واللغة العاطفية الأخلاقية، لا يكفي أن تقول بأنك وجدت علبة طعام منتهية الصلاحية في متجر ما، بل أن تقول شيئاً على نمط “إلى متى يستمر الاستهتار بأرواحنا وأرواح أبنائنا!؟” مع هاشتاج أن “المتجر_يقتلنا” وما شابه. إنها بيئة خصبة لنمو الشعبوية والمبالغة والنقد الجارح وحتى التنمر.
ويزداد القلق بشكل كبير حين يؤدي التضليل الرقمي إلى تحريك الناس لارتكاب أفعال إجرامية. في 2016 انتشرت بأمريكا نظرية مؤامرة سخيفة عرفت باسم “فضيحة بيتزاغيت” تزعم وجود أطفال محبوسين في قبو محل بيتزا بواشنطن العاصمة يتم استخدامهم من قبل الحزب الديموقراطي في الإتجار بالبشر وممارسة الجنس مع القصر. رغم انتشارها ظلت النظرية إلكترونية بشكل شبه حصري إلى أن قرر رجل أن يقود سيارته لأكثر من أربع ساعات باتجاه العاصمة ويستهدف المطعم بهجوم مسلح لتحرير الأطفال المزعومين من قبو المطعم وفي الحقيقة ليس للمطعم قبو أصلًا! سجلت عدة حالات أخرى من ربط انتشار المعلومات المغلوطة ونظريات المؤامرة بأعمال إجرامية مثل التخطيط لخطف حاكمة ولاية ميشيغان الأمريكية واقتحام الكونغرس في السادس من يناير 2021.
فهل يمكن إصلاح أعطاب آلة الإعلام الرقمي؟ في ظل استهلاكنا غير المسبوق لساعات طوال كل يوم على هواتفنا ومنصات التواصل الاجتماعي ومع انخفاض القدرة على النقاش المعمق والمفصل وانتعاش الهوس بالجماهيرية (وبالتالي تنامي الشعبوية) ومع تكثف حجرات الصدى وتوسع ثقافة التعليق اللاذع المختصر كيف ستتأثر قدرتنا على التفكير والتحليل على المدى الطويل؟ كيف ستتأثر قدرتنا على تمييز الصدق من الكذب والتفريق بين بناء المعرفة الحقيقية وبناء تراكمات من الدجل؟ كيف سنحدد الآراء الشاذة من الآراء الوجيهة حتى لو اختلفنا معها؟ وكيف يمكننا وقف الانحدار المعرفي؟
لا أحد يملك الجواب، وهذه هي المعضلة.
في المقالة التالية سنفكك جانبًا آخرًا من الآلة الإعلامية الرقمية.
Be the first to know about our new products and promotions and enjoy the enriching weekly newsletters.
تعليقان